نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
\"درويش نحيل
في صرة شال حزنه وسرح\"
هو عمر الطيب الدوش، ومن غيره؟ صوفي معذب، ذو اتصال بالعوالم الأخرى، فإذا هدأ الليل وغفت العيون الساهرة، أسرج خياله، ما أخلف وعده مع من أحب: الليل، الأشجار، الأزهار، والأيام، والأزمنة.
كان كثير الاحتفاء بالزمان، انظر إلى \"الحزن القديم\"، كتب هذا الموال البديع في ١٩٧٨م، فتأمل! ألا ترى فيه خروج جسور ذكي من لائحة الغناء السوداني، الانسحاب لفضاءات أرحب؟
\"ولا الحزن القديم أنت
ولا لون الفرح
ولا التذكار، ولا كنت\"
يعود الدوش في \"نوستالجيا\" عاصفة، يلوذ بحزنه القديم وأطياف من التذكر، ثم:
\"تجيني، يجيني معاك زمن
امتع نفسي بالدهشة
طبول بتدق
وساحات لفرح نور
وجمل للحزن ممشى\"
و(الدهشة) هي انتقال تجريدي يتجاوز خط الفرح. يعود الدوش ليطرح مشهدًا لـ \"المثير\" الذي نقله إلى منصة الدهشة، فيذكر الطبول التي تدق وساحات رحيبة يمشي فيها الحزن والأفراح، لعله أراد لك أن تسقط الصورة على روحك، ثم تنعم أو تتواجد قليلًا.
الحكي عن الدوش لا ينفصم عن محمد وردي أبدا: \"روحان حللنا بدنا\"، وكيف لك أن تفصل الجمر عن أعواد الصندل؟
قال وردي بصدقه الفني ووضوح رؤيته النافذة، إن أصعب وأقسى تجاربه الغنائية كانت مع ترانيم ووحي خيال شرود، ومعاني، وتراكيب، وفلسفة عميقة طرحها عمر الطيب الدوش، ثم يعود وردي ويعلن أن تجارب أغنيات الدوش هي أعظم تجاربه الفنية.
يتغنى وردي بأغنيات الدوش، يرتفع الصوت، ينساب كوشوشة حلم، كوسواس الحلي في يد طفلة \"تحفظ في كتاب الدين\"، ينقلك إلى عوالم من السحر والفتون، ويضعك أمام الدوش، ذاك الفتى الأسمر النحيل، وأشعاره المحتشدة بالمنازع الإنسانية وما فيها من حب ووجد وفرح وعذاب وشقاء.
كان وردي عصفورًا كثير التجوال بين ينابيع الأشعار الجميلة، وأنك لتتعجب إذ تطالع أسماء شعراء أغنياته، ترتسم في مخيلتك باقة أزاهير فواحة العبير. ولوردي شغف خاص بأشعار صفي روحه علي عبد القيوم، يتحدث عنه، ترتخي أوتار الكلام، تغشاه سحابة حزن، ثم يحكي هامسًا مستذكرًا بعض إبداعات علي التي لا يشابهها إلا ترانيم الدوش:
\"أشوف شفع يأشرو للقمرة بالمناديل
يلعبو فوق مرجيحات ضفيراتك\"
هكذا حكى علي عبد القيوم، ومن ينسى زمردة \"الاكتوبريات\":
\"أي المشانق لم نغازل شمسها
ونميط عن زيف الغموض خمارها\"
كان وردي يسعى بلا تقاعس لإيفاء رسالته لأهله، \"للناس\" الذين أحبوه، فأحبهم، غنى لأمانيهم وأحلامهم وعذاباتهم، رسم نهجا ومنهجا دقيقًا لتطور ذائقة وتذوق المتلقي، طاف بنا في كل مواسم الدنيا: ربيعها، خريفها، شتاؤها، صيفها.
رحل وردي المؤسس لكبرياء الغناء والمغني، وبقي خالداً في قلوبنا، في الذاكرة والمخيلة. تبقى ألحانه تميمة وتعويذة وحرزا، وصوتا جميلًا، شمسا لا تأفل.
التقيكم مع الهرم الأكبر مرة، ربما أكثر، فهل تنتظرون؟
0 التعليقات:
أضف تعليقك