الخميس 18/سبتمبر/2025
حين كانت الجمعة تبتسم

حين كانت الجمعة تبتسم


الطاهر يونس

(حلو شمبات مقيلا)… أغنية تسلّلت إلى وجدان السودانيين الشفيف، وارتبطت بحي شمبات، ذلك الحي الخرطومي الأنيق الممتد على الضفة الشرقية للنيل. شمبات التي تغري أشجارها السامقة كل باحث عن الجمال أن يدفن أحرفه وسط خضرتها الفاتنة، بينما أمواج النيل الهادئة تحمل الإبداع شمالًا.

غير بعيد من جمعة شمبات كانت لنا جُمع أخرى، نمضي فيها نحو الجزيرة، حيث الخلاوي وحلقات الذكر. هناك اعتدنا أن نغدو صباحًا ونعود مساءً بعد أن نرتوي من ذلك العشق الروحي، وكأننا نغسل أرواحنا بماء الجمعة.

كان صباح الجمعة آنذاك يغسل وجهه بالضياء الأول، ونداه الخريفي يلمع كدمعة فرح على خدّ الأرض. كان السودان أخضر القلب، نقي النفس، تحنو طرقاته على العابرين، وتتنفس بيوت الطين دفء المودّة. الجمعة كانت موعدًا مقدّسًا تُفتح فيه مسافة الطريق نحو الجزيرة، فنمضي كأننا نعبر جسورًا من شوق إلى أهل يلقونك بقلوبهم قبل أذرعهم، وابتساماتهم أوسع من ظلّ النيم والدليب… حيث يكتمل الأنس برفقة الأهل، فتكتسي الرحلة بألوان من البهجة والحبور.

أذكر من بين تلك الجُمع رفقة عمّي الحاج (كبير الأسرة حينها)، ترك المدرسة باكرًا، لكنه حفظ من الدنيا قصائدها وسير أبطالها. معه كانت المسافة تذوب في الكلام، فيستحي الطريق أن يطيل الفراق بين جملة وضحكة وحكاية تعبر الجغرافيا لتتمدد في التاريخ، قبل أن تنقطع عند أول نقطة تفتيش للمرور السريع.

هناك مازحت الشرطي قائلًا: “هذا عمي الوالي الجديد.” فوقف الرجل احترامًا، وألقى التحية البروتوكولية. تجاوزناه فابتسم عمي ابتسامة عميقة، ولسان حاله يقول:

ــ السلطة شيطان… نحمد الله أن لم نلبس ثوبها.

كانت كلماته كمن يدفع عن نفسه ريحًا عابرة عند أبواب الملوك.

ثم، كما تنطفئ قناديل المساء واحدًا تلو الآخر، رحل عمي الحاج، تاركًا مقعدًا فارغًا لا يشغله إلا طيفه. جاء بعده عبد الحي كنسمة تداعب جرحًا، يضحك كأن الفقد لم يطرق أبوابنا، لكنه سرعان ما رحل هو الآخر، تاركًا وراءه فراغًا مضاعفًا.

وفي المقعد ذاته جلس عاصم، ظلّ العائلة الوارف، رجل كانت دموعه تسقي قيام الليل، وصوته يوقظ الفجر بآيات القرآن. عاش منضبطًا بخلفيته الشرطية، لكنه صاغ انضباطه طاعةً لله، يفتح أبوابه للفقراء ويصل رحمه بغير حساب. حتى جاء يوم الغياب الأخير، فانكشف سقفنا للسماء وهجمت علينا الريح من كل الجهات.

كان فقده كطوفان أعمى، كالحرب التي جرّدت البلاد من أخضرها ويابسها، وتركت الجميع يلوّحون لأحلام العودة من بعيد.

وها نحن الآن نمسك بذاكرة الأيام الخضراء، خشية أن تذبل فينا كما ذبل الوطن.


0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار