الخميس 18/سبتمبر/2025
تحت الغمام

تحت الغمام

نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي

\"أسرب القطا هل من معير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير\"
وهذا قيس بن الملوح، مجنون ليلى، عميد العشاق، المتيمين، يلوذ بطائر القطا، مستغيثا، راجيا أن يعيره جناحا.
وظل الطائر في ذاكرة الغنا العربي رسولًا لأشواق، نجوى، لوعة، ورجاءات للقاء، يسكت ضرام نار لا يخبو أوارها.
وفي غنائنا ورد ذكر الطائر مرة، ثم العصافير، ثم (طير الجنة)، هكذا بكلام أهل السودان الذي يتدفق رقة وحنانا. ومن ينسى (عصافير الخريف) وهجرتها التي تثير أوجاعا تعصف بالروح عصفا.
انظر معي للحلنقي وهذا المشهد الفاتن البديع:
\"تحت الغمام شايف مواكب
الهجرة اتلاشت سراع\"
ذكر الحلنقي الغمام، ورحلة الغروب، والعصافير تبسط أجنحتها في رحلة أبكت الشاعر. وللغروب دلالة ورمز يفجع القلب. ثم يستأنف الشاعر إكمال المشهد الحزين:
\"تحت الغمام شايف مواكب
الهجرة اتلاشت سراع
ليه يا عصافير ليه الأسف
مين علمك أسف الوداع\"
هذا لحن مملوء وجدا، جمع فيه الشاعر كل مفردات الوداع، كل صيغه. اسمع معي الحلنقي يتلو هذه الأنشودة، بل اسمع الهرم الكبير محمد وردي وهو يصدح وكأنه عصفور أفرد جناحيه، طار مع هذه العصافير ثم تغنى. ثم قل بحق: حدّثني عن أي إمتاع حزين عصف بقلبك وأنت محاصر بين كلمات تضيء القلب ونغم مسحور؟
ومن ينسى تلكم الرحلة، ذلك الطائر الذي أرسله ذلك الأنيق صاحب الرومانسيات التي شغلت القلوب، لوحات معلقة على جدار القلب. رحل المبدع عبر البحر بعد أن ترك حديقة من أزاهير الغناء نعمنا بظلالها، سعدنا بعبقها، رحل، غير أن ريح الصبا كانت تنقله لوطنه في هدأة ليل إذا طرق سمعه صوت ناي مجروح بالعذاب، أو وقف قبالة البحر وأطياف من الذكريات تترى، يمد بصره، لا شيء يقصيه عن الوطن إلا جسد متسع من الماء، وبدأت صفحة أخرى ممهورة بأشواق عنيدة:
\"كل طاير مرتحل
عبر البحر
قاصد الأهل
حملتو أشواقي الدفيقة
ليك يا حبيبي للوطن
لترابو لشطانو للدار الوريقة\"
حسين بازرعة، رعى غرس الغناء المزهر، لكم تعذبنا وسهرنا. رحل بازرعة غير أن لوعته وحنينه للوطن ظلا وترًا مشدودا، مجدولًا من بديع الغناء. ثم سعدنا ونحن خشوع في محراب عثمان حسين وهو يبقينا، يهمس بحنجرته المملوءة بعذابات وصبابة.
غير أننا نعود لما بدأنا، إسماعيل حسن و(طير الرهو). وقد يمكننا إسقاط رمزية الطائر على أشياء عدّة، وفقا للمناخ والظرف والتجربة لكل متذوق وسامع، وكل يغني ليلاه.
ولعل المتلقي قد ألف إسماعيل حسن وأغانيه التي سقت أشجار الغناء العاطفي الرومانسي. ولعل المتلقي يدرك أثر النأي، البعد، الافتراق لدى الشاعر، وكيف تجاوز حدود البكاء:
\"والله يا طير الرهو
ما كنت مصدق أني ألقاك يا رهو
أحكي ليك عن جور زماني
كيف رماني
شوف وراك شوف الزمن كيفن مسو
حتى باقي الزاد كمل والليل طويل
طولا غريب ما فيهو ضو\"
الليل الطويل وعتمته، ونفاد الزاد، والرياح التي تنوح على الدروب المقفرة؛ هذا موال ينتمي شاعره إلى جذر عميق في بيئته: انتماء للجزر النائيات، وعزف جريد النخل، نواح السواقي، وبكاء طنبور، غناء (الترابلة)، سحر دقات الدليب؛ ما استطاع إسماعيل حسن أن ينزع روحه من أصولها، فبكى طويلًا.. طويلًا.
المبدع في كل أرجاء هذا الكون البديع يقتبس من بيئته. غنّى للطيور، بل كانت ملهما لأعمال خلدت. وإنك لتجد (تشايكوفسكي) وهو يصمم أحد روائع الموسيقى العالمية (بحيرة البجع). بل إنك لتجد في عالمنا العربي من كتب (السمان والخريف). غير أن (طير الرهو) منتج إبداعي سوداني لا يماثل. تسمعها أو تنشدها أو تترنم بها، تضعك في حال من الخدر اللذيذ، تنقلك إلى مرتقى عالٍ من الجذب الصوفي.
\"تصوّر كيف يكون الحال
لو ما كنت سوداني\"
ألقاكم مجددًا.. هل تنتظرون؟؟

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار