الخميس 18/سبتمبر/2025
اسفاي

اسفاي

نبض الكلمة

رندة المعتصم أوشي

\"اسفاي\" مفردة تحمل أثقالًا من الحسرة، والحزن، والأسى، غير أن لها ميزة توثيق لمشهد فلكلوري لا يبارى. هي لبوس من حلوى، كلما ازددت منها رشفا، نِعمت بامتاع وتذوق واشتهاء. قال الراوي:

إن مبعث هذا البوح الغريب، العصي، النبيل، هو مشهد الحصاد، حصاد الذرة.

واسماعيل حسن \"تربالي\" أصيل، ومحمد وردي من ذات العرق، فابوه \"تربال\" من أقاصي الشمال، من \"السكوت\"، صواردة. إذن كلهم \"ترابلة\".

نحن أمام غناء \"الترابلة\"، غناء للأرض، للسنبلة، والثمرة لا تخون الجذر.

قال محدثي: إن الشاعر وقف أمام هذا المشهد طويلاً، طويلاً مستغرقا، رأى الزراع، سواعدهم المعروقة، وتل كبير من سنابل الذرة، تلمع كحبيبات الفضة، والليلة مقمرة. إنه طقس العبور الأخير، إنه الحصاد.

يصطف المزارعون، يغمرهم نشاط النحل واليعاسيب، ويبدأ الموال: \"اسفاي… اسفاي\"؛ كلمتان فقط، تعلو الأصوات، يبث هذا النغم حماسة لتمضي رحلة الحصاد وما يصحبها من فرح ورقص و\"متوكل عليك يا الله\".

صمم الشاعر إطار الصورة، ترك لنا متسعًا من خيالنا لإكمال اللوحة، غير أن إسماعيل حسن أحدث مزجًا جميلًا بين الخاص والعام، يبدأ:

\"أسفاي، إرادة المولى رادتني

بقيت غناي

أسوي شنو مع المقدور

وراهو الواهب العطاي\"

قال محدثي إن الكلمة ليست \"غناي\"، بل هي \"صفاي\"، والمفردة ذات اتصال بترويق مشروب الذرة الذي نعرفه، ثم أحال إسماعيل حسن المفردة إلى \"غناي\" بتصرف لبق.

ثم ينتاب الشاعر شوق عاصف:

\"يسافر فوق جناح الشوق

يكوس نجما بعيد ضواي\"

وأنت لا تدري أين يمضي جناح الشوق، وأين هو ذلك النجم الذي يشع في الذاكرة، هل هي تلك الدار الرحيبة المعمورة بفيض العواطف الحرى، أم هي نجوم تضيء في ساحة عرس في \"مروي\"، أو \"نوري\":

\"عشان ما تبكي ببكي أنا

أحاكي الطرفة

في نص الخريف بكاي\"

وبكاء \"الطرفة\" بكاء ينهل فيه الدمع كأفواه القرب، وفيه حزن عقيم يهطل المطر فيها — أي الطرفة — ليلاً، وفي هذا مدعاة لحزن أكثر عذابا وتبريحا. وكأنك، صديقي، تتأسى ببدر شاكر السياب:

\"أتعلّمين أي حزن يبعث المطر

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع\"

ثم يحدثنا إسماعيل حسن عن العتامير وليلها المعتم، يحدثنا عن لهفته، عن حيرته، و:

\"قلبي يرمح جاي

يرمح جاي\"

هذه الأغنية نص مترف بإبداع فيه تجاوز عالٍ لمنسوب العصف العاطفي والتداعي، مشفوع بتعابير شاردة عن مألوف النص الغنائي: \"متوكل عليك يا الله\".

ثم يجنح، يصدح بمربعات \"الحردلو\" و\"النم\"، وهو ساهٍ، يرقب \"نجما بعيد ضواي\"، فكأنه يلوذ بشاعر البطانة في قوله:

\"فرقان البطانة اتكاتفن بالضو\"

ثم إنه لا يمكننا بلوغ معنى أو إدراك غرائب الإشارات التي زينت \"اسفاي\"، هذا ما قد يعجز عنه الخيال، تجف الأحبار قبل أن يدرك معناه.

انتبه محمد وردي لهذا النص، توتر كثيرًا، سهر، تسهّد، كان يصحو قبيل الفجر: \"والعصفور لم يطر\"، يتسرب وحي النغم، الكلمات الغضة، النضيرة تلهب شوقه، يرتفع الصوت الرنان عاليا، عاليا: \"اسفاي\"، يودعها كل لوعة، كل حسرة، ثم ينساب اللحن، الأوركسترا تتناغم، تصدح في شجو بديع، يطلق وردي حرية بلا حدود للعازف، \"وعربي\" و\"محمدية\" والمجموعة، كل يفصح عن مكنون إبداعه الذي أثاره وردي، تتدفق أصوات الأوتار، فرادى، كالنوافير الملونة، تحلق في الفضاء، تنقر على جدار القلب، ثم تعود، تلتئم، تستقر في منظومة واحدة.

هذا اللحن وما فيه من إبداع، كأنه مس من خيال وتجليات أفلتت من أسر المألوف، تفصح عن قيمة الفنان، وإدراكه، وإحساسه العميق بالنص، ومفرداته، وتعابيره. ومحمد وردي يشجيك، يطير بك عاليا إلى سقف التشويق والإثارة. يبدأ اللحن في سمو وارتفاع، محمد وردي لا يبدأ من الخط الأفقي، لا، هو يبدأ من الأعالي بلا توقف. انظر كيف كان استهلال اللحن \"اسفاي\": هو تنويه، تحذير، دعوة للتهيؤ لرحلة من الوجد والموجدة.

ولوردي وسماعين حسن ولد (حد الزين) حكايا، أحاديث، أسمار، وصبابة.


0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار