الخميس 18/سبتمبر/2025
ابتعلتني بكين في عام القرد المائي

ابتعلتني بكين في عام القرد المائي


الزبير نايل

… وأنا بين طيات السحاب في الطريق إلى الصين، كنت غارقًا في لجة خيالي، إذ كيف سأبدو بين أكثر من مليار إنسان، وجوههم متشابهة وقاماتهم تكاد تكون متساوية في رقعة جغرافية واحدة.

هاجس تملكني وأنا أستدعي ما قرأته عن بلاد التنين والأساطير التي تزامن وصولي لها مع احتفالاتها بأحد أعيادها. عاصمتها بكين كأنها غارقة في شفق المغيب، فقد طغى عليها اللون الأحمر، وصور الزعيم الصيني ماو تسي تونغ تزحم الشوارع وتعلو المباني وترفرف في الساحات.

في ميدان تيانانمين الشهير، يسد الشعب الأصفر عين الشمس، والدراجات عند إشارات المرور كأنها في سباق ماراثوني، وصور الزعيم في خلفية أي مشهد. المدينة صارمة القسمات والعمل فيها مقدس من المهد إلى اللحد، كأن أولئك القوم يحملون همّ العالم على أكتافهم.

لا تكتمل زيارتك إلى الصين إلا بصعود سورها العظيم، أحد أهم مواقع التراث العالمي، الذي طبقت شهرته الآفاق، وإحدى عجائب الدنيا السبع، لأنه منجز يشبه الإعجاز وشاهد على حضارة متجذرة في التاريخ.

(وانغ شو)، شاب مُسطح الوجه وبلحية شحيحة وشارب نافر مثل برادة الحديد المنثورة على قطعة مغناطيس، كان دليل زيارتنا للسور العظيم، وقد طبعت رفقته ذهني بحرارة. يتحدث مزهواً بلغة عربية مكسرة، وبقناعة راسخة أن بلده هو النواة التي يدور في فلكها العالم.

السور يتلوى كالأفعى فوق الجبال المكسوة بالخضرة لمسافة عشرين ألف كيلومتر، وقد تم تشييده لحماية البلاد من هجمات المغول. أخلاط السياح في دهشة وإعجاب؛ حقًا إنه مشهد مذهل ومعجزة في التاريخ المعماري البشري.

في طريق العودة من السور توقفنا في استراحة ريفية وسط سلسلة من الجبال. تراءت لنا من بعيد هضبة التبت، حينها تذكرت رحلة قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح الصين. أخرج (وانغ شو) من جيبه ما يشبه الغليون ونفث منه دخانًا كثيفًا ظل عالقًا لفترة في الهواء. تناولنا قهوة، وما زال طعمها ملتصقًا بلهاتي كأنها معتقة منذ عهد الأباطرة.

الصينيون لا يتركون شيئًا يدب أو يطير أو يسبح إلا وجلبوه لموائدهم. كنت متوجسًا ومرتبكًا لأن علينا تلبية دعوة عشاء رسمية. في القاعة كان كل شيء في انتظام. وضع النادل أمامي حساءً لفتح الشهية توطئة لما لذ وطاب. أخذت ملعقة ثم ثانية، وعند الثالثة جحظت عيناي واصطكت أسناني، لأني تذكرت فجأة أن هذا العام في التقويم الصيني هو… عام القرد المائي.


0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار