منظومتنا تقبل الجميع مهما كانت الظروف المادية
التربية أولاً… هكذا نبني جيلاً يتجاوز الحرب والشتات
من المنصات الرقمية إلى الفروع الحضورِيّة… مسيرة تعليمية غير عادية
في عالم التعليم الذي يزداد تحدياً يوماً بعد يوم، تبرز تجارب ملهمة صنعت حضورها بإرادة ذاتية وإيمان عميق برسالة المعلّم. من بين هذه التجارب تجربة الأستاذة انتصار شاور محمد عبدالقادر، التي استطاعت أن تبني مشروعاً تعليمياً متكاملًا يمتد من السودان إلى السعودية، وأن تقود مبادرة رائدة في التعليم الإلكتروني منذ سنوات الجائحة، ليصبح لها اليوم أثر ملموس في تأسيس جيل كامل. في هذا الحوار، نقترب من مسيرتها الممتدة لثلاثة عقود، ومن الرؤية التربوية التي اعتمدت عليها، وكيف استطاعت إدارة مجموعات تعليمية ناجحة في ظروف الحرب والشتات، لتقدّم نموذجاً فريداً في العطاء التربوي.
بداية… نود التعرف على خلفيتك التعليمية ونشأتك الأولى؟
ولدت في قرية وادي شعير، ريفي طابت الشيخ عبدالمحمود بولاية الجزيرة. درست المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في مدرسة وادي شعير، ثم التحقت بكلية معلمات أم درمان. كانت مدة الدراسة أربعة أعوام، لأن شهادة الدبلوم تعادل دبلوم معهد بخت الرضا مع إضافة عام للتأهيل التربوي. تخرجت في الدفعة رقم 74 عام 1991م، وهي من آخر دفعات الكلية قبل إغلاقها في 1993م.
■ كيف كانت طبيعة الدراسة في كلية المعلمات آنذاك؟
كانت الدراسة شاملة لكل المواد، دون تقسيم لمساق علمي أو أدبي، لأن الهدف إعداد معلمة قادرة على تدريس جميع المواد في المدرسة الأساسية. نحن كنا آخر دفعات إعداد المعلمات في السودان، وقد أُغلقت الكلية بعد دفعة واحدة فقط من بعدنا.
■ ماذا بعد التخرج؟ وأين كانت بداية مسيرتك العملية؟
بدأت عملي في ولاية الجزيرة، ثم انتقلت إلى ولاية الخرطوم – محلية أم درمان، وعملت هناك حتى 2015م، حيث خرجت للمعاش الاختياري بسبب سفري إلى السعودية. وفي السعودية واصلت عملي في تدريس المنهج السوداني ضمن المجموعات التعليمية منذ 2010م وحتى اليوم.
■ هل واصلتِ دراساتك بعد التخرج؟
نعم، خلال عملي درست تربية لمدة أربعة أعوام بتخصص الدراسات الإسلامية والاجتماعيات (جغرافيا وتاريخ). كما شاركت عام 2004م في ورشة تنقيح مادة اللغة العربية للصف الثامن بمعهد الضو حجوج للغة الإنجليزية. لاحقاً بدأت دراسة الماجستير وكان بحثي عن “الدمج”، لكنني لم أكمله لأسباب أسرية وظروف السفر.
■ كيف بدأتِ تجربتك في التعليم الأونلاين؟
بدأت فعلياً عام 2019 مع تأسيس مجموعة “ابن فرناس التعليمية”. ومع ظهور الجائحة 2020م اضطررنا لتطوير التجربة. لم نتلقَ أي كورسات أو تدريب رسمي، بل تعلمنا كل شيء بأنفسنا. ومع الوقت توسع نشاطنا، وأصبح لدينا حضور قوي في مسار المنهج السوداني داخل السعودية.
■ ما أبرز التحديات التي واجهتكم في التعليم الأونلاين؟
كانت التحديات كبيرة جداً:
- ضعف الإنترنت في بعض مناطق السودان.
- عدم معرفة الأسر بكيفية تشغيل البرامج أو دخول الحصص.
- الحاجة لشرح التقنية للأسرة والطفل معاً.
ولهذا أصبحنا لصيقين بالأسرة أكثر مما في التعليم الحضوري، لأن الأم كانت تحضر الحصة وترى الواجبات مباشرة، مما جعل الفهم أسرع والمتابعة أكثر دقة.
■ هل واجهتكم مواقف إنسانية خلال الحرب؟
نعم، فقدنا التواصل مع بعض المعلمات ولم نعرف مصيرهن. وعندما اقترحنا على أولياء الأمور استبدالهن بمعلمات أخريات، رفضوا وقالوا: “أجزوا لأولادنا عشان يحسوا بالحاصل في السودان.”
كان موقفاً عظيماً، جمع الناس على كلمة واحدة، وعكس وفاء الأسر السودانية رغم الظروف.
■ كيف وصل نشاطكم إلى أسر خارج السودان؟
في السنة الثانية للجائحة تواصلت معنا أسر سودانية في ألمانيا وفرنسا، وأخبرونا أن التجربة وصلت إليهم عبر أقارب حضروا حصصنا أو درسوا معنا. درستُ لأربعة طلاب في ألمانيا وطلاب آخرين في فرنسا، وكانت تلك نقلة كبيرة ودافعاً للاستمرار.
■ ما الذي يميز مجموعة “ابن فرناس” عن غيرها؟
عدة أشياء، أبرزها:
- لا نضع رسوماً ثابتة. نسأل ولي الأمر: “بتقدر تدفع كم؟” وهذا ما جعل الاستمرارية ممكنة.
- توثيق الشهادات عبر مدرسة متعاقدة في السودان.
- نتائج قوية: طلابنا الذين درسوا المنهج السوداني امتحنوا بعدها المنهج السعودي وحققوا تميزاً.
- الجانب التربوي مقدم على الجانب المادي.
- تجربة أونلاين حقيقية بدأت دون دعم خارجي واعتمدت على الاجتهاد الذاتي.
■ لماذا تعتمدون على طاقم نسائي بالكامل؟
لأن المعلمة أقرب للأطفال عاطفياً وتربوياً، وهي أم قبل أن تكون معلّمة، وهذا مهم لطلاب الصفوف الصغيرة.
كما أن استقرار المعلمة أكبر من استقرار المعلم، فهي لا تتنقل بين مدارس كثيرة ولا تستعجل زيادة الدخل مثل الرجل الذي غالباً يعمل في أكثر من مكان.
ثم إن هذا الأسلوب يجنّب مشكلات كثيرة قد تؤثر على البيئة التعليمية دون أن يشعر الناس بها.
■ حدثينا عن التوسع في الفروع الحضورِيّة؟
منذ سمحت السعودية للمدارس بالعمل بسجلات سعودية، فتحنا فرعنا الأول ثم الثاني ثم فرعين إضافيين. كل التعيينات تتم بمعايير واضحة:
- أن تكون المعلمة خريجة تربية أو لديها شهادة خبرة تثبت تدريسها للمنهج السوداني.
كما لا يوجد تغيير في الطاقم إلا عند فتح فرع جديد.
■ وماذا عن مشروعكم التعليمي في السودان؟
أسسنا “تعليمية ابن فرناس” كمنشأة تعليمية في ولاية البحر الأحمر. بدأنا بالمرحلة المتوسطة لأنها الأكثر حاجة بعد الحرب، حيث أغلب المدارس لم تكن جاهزة لهذه المرحلة. ونطمح أن يكون المشروع نواة لتعليم حقيقي متكامل عند استقرار الأوضاع.
■ تطرقتِ كثيراً لدور الأمهات… ما المبادرات التي قدمتيها لهن؟
منذ 2017–2018 بدأت لايفات على فيسبوك لمعالجة صعوبات اللغة العربية والرياضيات للأطفال.
كما ربطت مادة العلوم الخاصة بمرحلة البلوغ والمراهقة بمادة التربية الإسلامية، حتى يتمكن الوالدان من شرح هذه الجوانب دون حرج وبأسلوب تربوي سليم.
أيضاً لدي مقاطع قصيرة لمعالجة التأسيس الصحيح: المخارج، الاستهجاء، القواعد… وكلها تساعد الأم على أن تكون معلّمة لطفلها.
■ هل لديكم دعم إضافي للطلاب أصحاب الضعف الدراسي؟
نعم. لدينا شعب لمعالجات اللغة العربية والرياضيات واللغة الإنجليزية.
كل تلميذ لديه مشكلة يُضم إلى قروب المعالجات، وتقدم له أوراق عمل وتصحيح مستمر دون مقابل.
■ كيف كانت نتائجكم منذ بداية التجربة؟
من 2019 وحتى اليوم:
- لم يرسب أي تلميذ في الشهادة السودانية أو في الصف السادس أو الثالث متوسط.
- الطلاب الذين رسبوا سابقاً في مدارس أخرى ثم درسوا معنا نجحوا.
- لدينا أرشيف كامل لنتائجنا وشهاداتنا منذ اليوم الأول.
- وأي شخص يفقد شهادته نتمكن من استخراج نتيجته من الأرشيف.
■ ماذا عن التحدي الأكبر أمامكم الآن؟
أكبر تحدٍّ هو دفعة 2026، وهي أول دفعة درسناها منذ الصف الأول وحتى الصف السادس بالكامل عبر الأونلاين. هذه الدفعة تمثل الاختبار الحقيقي لنجاح التجربة.
■ كلمة أخيرة؟
نتمنى أن يكون ما نقدمه بذرة لسودان جديد، وأن نكون جزءاً من إعادة بناء التعليم واحتواء أبنائنا وبناتنا في الظروف التي يمر بها الوطن. ونؤمن أن التعليم الحقيقي هو أساس النهوض، وأن رسالتنا ليست مجرد تدريس، بل بناء إنسان متكامل.

0 التعليقات:
أضف تعليقك