الجمعة 21/نوفمبر/2025
إمبراطور الأغنية البجاوية.. خمسون عامًا من النغم والإنسانية

غنى للحب والتراث والحماسة والسياسة.. فصار صوته عنوانًا لإنسان الشرق

إمبراطور الأغنية البجاوية.. خمسون عامًا من النغم والإنسانية

في أواخر السبعينات من القرن الماضي، برز صوتٌ شبابيٌّ غنائيٌّ يلامس عصب السماء، ويزاحم النجوم تلألؤًا وجمالًا، ويشابه ثبات جبال التاكا في الصمود والبقاء. هذا الشاب، الذي وجد الساحة تكتظ بكثير من الفنانين والمطربين البجاويين، كان له منهجٌ فنيٌّ مختلف عن أولئك الذين سبقوه في الميدان. ومنذ أن أصبح اسم محمد البدري يتردد في الوسط البجاوي الفني، كان هَمُّه الأكبر وشغله الشاغل هو كيفية نقل الأغنية البجاوية والتراث البجاوي إلى العالمية.
رصيد هائل
 لم يكن يهتم كثيرًا بالعائد المادي الذي كان يشغل فناني جيله، بل عكف على دراسة التراث الشرقاوي الغنائي، وغاص في بحوره حتى تشبّع برصيدٍ هائلٍ من الثقافة الفنية. وباكراً، استطاع الفنان محمد البدري أن يتسيّد الساحة الغنائية في شرق السودان، وساعده على ذلك امتلاكه لخامة صوتٍ فريدة ونادرة، وظّفها في أداء الأغاني التي يجد كثيرٌ من المطربين صعوبةً في أدائها، مظهرًا قدرةً عالية على الاحترافية الفنية في الأداء والتجويد. 
صورة مختلفة
ويرى الكثيرون أن محمد البدري كان امتدادًا طبيعيًا لمن سبقوه في مجال الغناء بشرق السودان، مثل الأستاذ الفنان عبد الرحيم شامي الذي يُعدّ من الجيل السابق، ويمتاز بصوته المميز، وله باعٌ طويل في عكس الثقافة والتراث في شرق السودان، من خلال التوليف بين القطع الموسيقية والإيقاعات المحلية. غير أن ود البدري استطاع أن يمنح الأغنية البجاوية صورةً مختلفة عن السابق، من خلال تطويرٍ كبير في شكل الألحان والتوزيع الموسيقي، والاهتمام بالمفردة التي تلامس الوجدان وتطرب المتلقي. 
محبة وانسانية
طوال مسيرته الفنية، سار ود البدري بين الناس بالمحبة والإنسانية قبل أن يصبح فنانًا معروفًا، وله مواقف كثيرة في مجالات الخير والتفاعل مع قضايا إنسان الشرق. كثيرون من مواطني مدينة كسلا ما زالوا يذكرون موقفه في منتصف الثمانينات، حينما أقام حفلاً غنائيًا كان عائده المادي مخصصًا لعلاج أحد المواطنين الذي كان يعاني من أزمةٍ في عينيه. والطريف أن الرجل الذي تكفّل ود البدري بعلاجه، رفض أن يفتح عينيه بعد الشفاء إلا أمام ود البدري نفسه، كما تُروى الحكاية. وبالعودة إلى تجربة ود البدري الغنائية، فإنها تحمل في طياتها الكثير من النجاح، وتربّعه على عرش الأغنية البجاوية لسنواتٍ طويلة دليلٌ على تفرده وتميّزه. 
مهرجانات عالمية
ومن خلال تلك المسيرة الناصعة بالعطاء، شارك ود البدري في العديد من المهرجانات المحلية والعالمية، مرتديًا الزي البجاوي المميز، فارشًا جناحيه للتحليق في سماء العالمية، ناشرًا للأغنية والتراث البجاوي، مستفيدًا من خبرته التراكمية الكبيرة وصبره وإخلاصه لمشروعه الفني. وتغلب على أعمال ود البدري الغنائية الموضوعات الاجتماعية التي تهم المجتمع، فهو يهتم بالقضايا الحياتية اليومية، والحب والعاطفة، والتراث، والحماسة، وكذلك الأغنية السياسية. ورفض محمد البدري أن يُحصر في كونه سفيرًا للأغنية البجاوية فحسب، إذ أدهش المتابعين حين أظهر براعةً كبيرة وموهبةً متميزة في غنائه لأغنية "غيرة" للشاعر الراحل إدريس جماع وألحان الفنان الراحل سيد خليفة، كما قدّم أداءً لافتًا في ظهوره مع المطربة إنصاف فتحي في أغنية "من أول نظرة". وعلى الرغم من أن الفنان الراحل أركا صابر يُعدّ فنان الثورة بالنسبة لأبناء البجا في شرق السودان، إذ ظل يغني لها منذ بدايتها، إلا أن ود البدري طوّر الأغنية السياسية وفق منهجٍ جديد، عاكسًا من خلالها مفاهيم ثورية حديثة لدى الشباب، ووظّف قدراته الفنية لخدمة هذا التوجّه، حتى أصبح من أكثر الفنانين تأثيرًا في شريحة الشباب. 
نكهة خاصة
ودائمًا ما كان الفنان محمد البدري يصدح بدعواته لوحدة أبناء البجا كافة تحت راية قوميةٍ واحدة، داعيًا لتجاوز أي شكلٍ من أشكال الخلافات والقبلية، والعمل يدًا بيد من أجل إنسان الشرق ومجتمعه. وتعاون ود البدري خلال مسيرته الغنائية الممتدة مع عددٍ كبير من الشعراء، من أبرزهم مكي قلباوي وطاهر شيك. وعطفًا على ما ذُكر، فإن الفنان – أو الإمبراطور كما يحلو لمعجبيه أن يلقبوه – يظل محمد البدري فنانًا ذا نكهةٍ خاصة، مشبعة بجمال إنسان الشرق العتيق، بارعًا في نثر الغناء الجميل المشحون بالمعاني الحياتية التي تمثل صمّام أمانٍ للمجتمع، محافظًا على مشروعه الغنائي الذي بدأه قبل خمسين عامًا، ليظل الفنان الوحيد الذي يمتلك القدرة على ترقيص القمر في ليلةٍ صيفيةٍ على خجل.


0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار