الأحد 14/ديسمبر/2025
ماجد إسماعيل… الرفيق الذي انتصر للوفاء قبل القانون

إبراهيم عوض يكتب عن لحظات صاغتها الصداقة وأكملتها الشهامة

ماجد إسماعيل… الرفيق الذي انتصر للوفاء قبل القانون

 

 

التزم بموقفه المهني .. واغلق ملف قضيتي مع طه علي البشير باحترافية

 

 

لم يكن خبر رحيل ماجد إسماعيل في القاهرة قبل أيام خبرًا عابرًا. كان كصفعة مؤلمة، لكنها ايقظت في القلب صناديق الذاكرة التي ظننت أنها أغلقت للأبد. عاد ماجد، بكل قامته الإنسانية والمهنية، يطرق باب الروح كما كان يفعل في أيامه الأولى… حين كنا نغرس جذور صداقتنا في تربة الهلال، فتنبت علاقة تشبه الشجرة الوارفة،  ثابتة، ضاحكة، وذات ظلّ لا يخون.

أكتب عنه الآن، لا بصفتي الصحفي الذي عرف الرجل في محاكم الرأي ومعارك الكلمة، بل كأخٍ فقد رفيقًا كان يملأ الدنيا حوله ثقة واتزانًا وابتسامة لا تعرف الزيف.

 

مهنية والتزام صارم

كانت الخرطوم بحري تستيقظ على شتاءٍ رزين حين ذهبت إلى المحكمة في تلك القضية الشهيرة التي رفعها ضدي السيد طه علي البشير، رئيس نادي الهلال آنذاك، بعد مقال نشرته في الراي الآخر التي كنت أتولى فيها رئاسة القسم الرياضي ونائبًا لرئيس التحرير تحت إدارة الراحل الدكتور محيي الدين تيتاوي.

في قاعة المحكمة كنت أقف في مكان المتهمين، بينما كان ماجد إسماعيل—مستشار نادي الهلال ومحامي السيد طه — يقف في الجهة الأخرى، بما تفرضه مهنته من التزام صارم تجاه موكله. نظراته كانت ثابتة، لكنه كان يتحاشى أن يصوبها نحوي طويلًا؛ كأنه يخشى أن تظهر الصداقة بيننا في موقف لا يسمح بالضعف.

ولأن القدر يحب المفارقات، فقد أُبعد القاضي مولانا أحمد الطاهر النور محامي الرأي الآخر بعد أن طلبه السيد طه علي البشير ليشهد دفاعًا عنه في القضية، فوجدت نفسي وحيدًا أمام تهمة يمكن أن تقودني إلى السجن.

رفع القاضي الجلسة وحدد لها موعدا آخرا ليمنحني الفرصة في اختيار محامي.

كمال الجزولي يدخل المشهد

دخل الأستاذ كمال الجزولي إلى حياتي في الجلسة الثانية،  كفارس يعرف طريقه جيدًا. تطوّع للدفاع عني حين علم باستبعاد مولانا أحمد الطاهر النور، وجئنا جميعًا إلى المحكمة: الطيب عبدالله، عبدالمجيد منصور، مولانا أحمد الطاهر، محمد حمزة الكوارتي كشهود دفاع.

جلست أنا بعيدًا، بينما أخذ كمال الجزولي مكانه إلى جواري، يهمس لي بثقة ويؤكد أن ما كتبته لا يمكن أن يدينني.

ورغم ثقل اللحظة، كان قلقي الأكبر متجّهًا لماجد. كنت أعلم أن قلبه معي، لكن واجبه المهني يفرض عليه الوقوف ضدي. كانت معادلة لا تُحسَد عليها الأرواح النبيلة.

 

محاولة الصلح الأولى

قبل بدء الجلسة، نهض ماجد وتحدث إلى القاضي بطلب مهني لا يخلو من رجاء خفي، أن يمنح الأطراف فرصة للخروج وإنهاء القضية بالصلح، حفاظًا على ما تبقى من تماسك الهلاليين.

وافق القاضي، لكن السيد طه وضع شرطًا بدا قاسيًا:
أن يستمع القاضي أولا  إلى شهود الاتهام أولًا ليؤكدوا أمامه أن ما كتبته في الرأي الآخر غير صحيح قبل أن يُبرم أي صلح.

كان ذلك المقترح كفخٍّ ينصب في منتصف الطريق. وهنا قال الأستاذ كمال الجزولي عبارة حاسمة:
"إن استمعنا لشاهد واحد، فلن نتنازل عن القضية وسنسير بها حتى نهايتها."

تراجع طه عن شرطه، وخرجنا من القاعة  بهدوء.

 

ماجد يتكفّل بالصلح

ذهبنا إلى مكتب السيد طه علي البشير في شركة حجار، من المحكمة أنا وعبدالمجيد منصور ومحمد حمزة الكوارتي ومعتصم الحاتي بطلب من الراحل ماجد اسماعيل  لاتمام الصلح وقفل ملف القضية، كان العم عوض عشيب يرحمه الله وعدد من رموز الهلال في انتظارنا هناك. الجو كان مشحونًا. قبل فتح باب النقاش، اصطدمت الكلمات بالحساسيات القديمة.

توتّر عبدالمجيد منصور وكاد ان يخرج من المكتب، لولا حكمة العم عوض عشيب التي أعادت الجلسة إلى هدوئها.

عندها، نهض ماجد من مكانه، واستأذن السيد طه للخروج. غابا عنّا دقائق ثلاث، لكنها بدت طويلة كأنها فصلٌ كامل من حياة الهلال.

وعندما عادا، كان ماجد يحمل على وجهه تلك الابتسامة الهادئة التي يعرفها كل من أحبه. قال بثقة الرجل الذي يعرف كيف يضع الكلمة في مكانها:

"الموضوع انتهى… سنذهب  انا وإبراهيم الآن إلى المحكمة لشطب البلاغ."

وذهبنا وشطبنا البلاغ.

 

جملة محفورة في القلب

بعد انتهاء إجراءات شطب البلاغ، ونحن نخرج من المحكمة، سألته:
"يا ماجد… ماذا قلت لطه؟ ماذا حدث في تلك الدقائق القصيرة حتى أغلق الملف بهذه السرعة؟"

ابتسم… تلك الابتسامة التي تشبه ظل الشجرة التي نشأنا تحتها، وقال جملة ستظل محفورة في القلب:

"ما يجمع بينكما أكبر من الخلاف… وما يجمع بيني وبينك لا يسمح أن أقف متفرّجًا وأنتم تتباعدون."

لم يقل أكثر من ذلك… لكنه قال كل شيء.

 

رحيل ماجد… وامتداد ظله في الذاكرة

رحل ماجد إسماعيل بعد صراع مع المرض، لكن سيرته تظل واقفة مثل قامته. كان محاميًا صلبًا، وصديقًا لا يتخلى، وهلاليًا يحمل النادي في ضلوعه لا في جيبه.

علّمنا معنى أن يكون الإنسان أكبر من موقعه، وأكبر من معاركه، وأكبر من كل ما يمكن أن يفرّق بين القلوب.

وها أنا اليوم أكتب عنه…
لأن الوفاء لا يشيخ، ولأن ماجد—رحمه الله—كان ينتمي إلى ذلك الجيل النادر:
جيل الرجال الذين إذا قالوا أصلحوا، وإذا وقفوا استقاموا، وإذا رحلوا تركوا خلفهم حكايات تُروى… لا تُنسى.

 

 

 


0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار