الأحد 14/ديسمبر/2025
خمسة أعوام من الصمت… وما زالت أغنياته تنطق بالحياة

خمسة أعوام من الصمت… وما زالت أغنياته تنطق بالحياة

خمسة أعوام من الصمت… وما زالت أغنياته تنطق بالحياة

 

 

الصوت الذي صاغ الفصحى لحناً سودانياً خالصاً

غنّى للحياة..  وما زال الصباح الجديد يشرق بصوته

من جزيرة توتي إلى ذاكرة الوطن… مسيرة لا تنطفئ


في الأول من ديسمبر عام 2020، ترجّل فارس من فرسان الإبداع ورحل عن دنيانا الفنان الكبير حمد الريح بعد صراع مع فيروس كورونا، عن عمر ناهز الثمانين عاماً. وبرحيله فقدت الساحة الفنية السودانية علماً من أعلام التجديد والتطوير في الأغنية، ورمزاً من رموز الثقافة والفن الذين تركوا بصمة لا تُمحى في وجدان الشعب السوداني.

وُلد حمد الريح في الخرطوم، بجزيرة توتي عام 1940، ونشأ وهو يحمل ميولاً متعددة بين الأدب والرياضة والفن. بدأ خطواته الأولى في عالم الغناء عام 1957 عبر الحفلات العامة، قبل أن يصبح لاحقاً واحداً من أبرز الأصوات التي أعادت تشكيل ملامح الأغنية السودانية.

والمفارقة الجميلة في مسيرته أنه لم يبدأ حياته فناناً فقط، بل كان لاعب كرة قدم أيضاً؛ إذ ارتدى شعار نادي المريخ عندما لعب في فئة الأشبال، كما عمل أميناً لمكتبة جامعة الخرطوم قبل أن تستقر به الرحلة في مملكة الطرب.

تميز حمد الريح بصوت فريد وإحساس عالٍ مكّنـاه من أداء الأغاني السودانية بالعربية الفصحى بمهارة أشاد بها الشعراء والنقاد، فأعاد إلى الأغنية السودانية بريقاً خاصاً ولوناً مميزاً. وخلال مسيرته الطويلة شغل منصب نقيب الفنانين السودانيين بين عامي 2010 و2012، مواصلاً بذلك دوره الريادي في خدمة الوسط الفني والدفاع عن حقوق الفنانين وكرامتهم.

خلّف الراحل إرثاً غنائياً ضخماً ظل يتردد في المحافل والأعراس والوجدان العام. ومن أشهر أعماله: يا ماريا، الرحيل، الساقية، الصباح الجديد، اسكني يا جراح، وغيرها من الأغنيات التي صنعت مجداً لا يخبو.

لم يكن حمد الريح مجرد مطرب، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، ومعْلماً من معالم التطور الموسيقي في السودان، وصوتاً حمل الوعي والجمال معاً. وفي ذكراه الخامسة يبقى أثره حاضراً في الألحان والذاكرة وفي كل قلب تربى على صوته وتغنّى بكلماته.

ومن أبرز ما غنّاه قصيدة "الصباح الجديد" للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي.

 

قراءة في أبيات “الصباح الجديد

أُسكني يا جراح وأسكتي يا شجون

مات عهدُ النواحِ وزمانُ الجنون
وأطلَّ الصباحُ من وراءِ القرون

يفتح الشاعر بهذه الأبيات باباً جديداً للحياة. يقول للجراح: اهدئي وانتهى زمن الألم، ويخاطب الشجون (الهموم): اسكتي فقد انقضى عهد البكاء. والصباح الطالع من وراء القرون رمزٌ لبداية جديدة وفجرٍ يجيء بعد ظلامٍ طويل.
(يا آلامي ارتاحي، ويا همومي اسكتي، فقد انتهى زمن الوجع وجاء صبح جديد بعد ليل طويل).

 

في فجاجِ الردى قد دفنتُ الألم

ونثرتُ الدموعَ لرياحِ العدم
واتخذتُ الحياةَ معزفاً للنغم

يقول الشاعر إنه سار في أعمق دروب الموت والمعاناة ودفن آلامه هناك، ونثر دموعه لرياح العدم في إشارة إلى توديع الحزن تماماً. ثم قرر أن يتعامل مع الحياة كأنها آلة موسيقية يعزف عليها أجمل الألحان.
(مشيت حتى دروب الفقد والموت، ودفنت أوجاعي، ورميت دموعي للعدم، ومن اليوم سأتعامل مع الدنيا كأنها آلة عود أعزف عليها أعذب الأنغام).

 

أتغنى عليه في رحاب الزمان

وأذبتُ الأسى في جمال الوجود
ودحوتُ الفؤادَ واحةً للنشيد

يؤكد الشاعر أنه غدا يتغنى بلحن الحياة عبر الزمن، ويذيب الحزن في جمال الدنيا، ويحوّل قلبه إلى واحة مليئة بالغناء والأنشاد.
(الحزن تلاشى، والقلب صار واحة عامرة بالطرب والجمال).

 

والضيا والظلال والشذى والورود

والهوى والشباب والمنى والحنان

هذه لوحة مكتملة من الجمال: ضوء وظل، عطر وورد، حب وشباب، أحلام وحنان.
(الدنيا امتلأت ضياءً وعطراً وورداً وحباً وشباباً وأحلاماً وحناناً، والقلب انفتح لكل جميل).

 

في فؤادي الرحيب مجلسٌ للجمال

مفعمٌ بالحياةِ بالرؤى والخيال
فتلوتُ الصلاة في خشوعِ الظلال
وحرقتُ البخور وأضأتُ الشموع

 

هذه لحظة صفاء روحي خالصة؛ فالقلب غدا مجلساً للجمال والرؤى، وتلا صلاته في هدوء الظلال، وأوقد البخور والشموع كطقس روحاني.
(قلبي صار كأنّه خلوة، مليئاً بالحياة والخيال، أتعبد فيه وأتأمل، وأشعل البخور والشموع… حالة صفاء لا يُضاهى).

 

إن سحر الحياةِ خالدٌ لا يزول

فعلامَ الشكاةُ من ظلامٍ يحول
ثم يأتي الصباحُ وتَمُرُّ الفصول

 

هنا يفلسف الشاعر الحياة: سحرها باقٍ لا يفنى، فلمَ الشكوى من ظلام مؤقت؟ فالصباح يأتي مهما تأخر، والفصول تتبدل.
(الدنيا لا تدوم على حال، والليل مهما طال ينجلي، فلا داعي للحزن الطويل).

 

سوف يأتي ربيعٌ إن تقضّى ربيع

حتى لو مضى ربيع، فإن ربيعاً جديداً قادم لا محالة.
رمزٌ للأمل المتجدد.

 

من وراءِ الظلامِ وهديرِ المياه

قد دعاني الصباحُ وربيعُ الحياة
يا له من دعاءٍ هزّ قلبي صداه

 

يقول الشاعر إنه من وسط الظلام وضجيج الأمواج ناداه الصباح ونداه ربيعُ الحياة، فهزّ النداء قلبه وأحياه.
(من قلب العتمة والضوضاء سمعت صوت الحياة يناديني… صبح جديد، وربيع جديد، رجف له قلبي رجفة أمل).

 

لم يعُد لي بقاءٌ فوق هذي البقاع

الوداعُ الوداعُ يا جبالَ الهموم
يا هضابَ الأسى يا فجاجَ الجحيم

هنا لحظة التحرر.
يقول الشاعر: لا أستطيع العيش في أرضٍ مليئة بالهموم والآلام.
يودّع الحزن كأنه أشخاص:
(ما عندي بقاء في أرض الهموم… وداعاً يا جبال الحزن ويا وهاد الأسى، أنا مغادر دروب الجحيم).

 

قد جرى زورقي في الخضمّ العظيم

ونشرتُ الشراع… فالوداع الوداع

 

خاتمة رمزية بالغة الجمال.
فالزورق هو الروح، والخضم العظيم هو الحياة الجديدة، ونشر الشراع هو إعلان الانطلاق نحو الأمل.
(أنا مسافر من الظلام إلى النور، من الحزن إلى الدهشة، من الألم إلى الرجاء).

 

الصباح الجديد… لقاء عبقرية الشابي وروح حمد الريح

أغنية "الصباح الجديد" جمعت بين صوتين عبقريين:
أبو القاسم الشابي بشاعريته السماوية، وحمد الريح بإحساسه الفريد وقدرته على تحويل النصوص الفصحى إلى مقطوعات روحية تلامس الوجدان.

الشابي كتب قصيدة تحمل ثقل التجربة الإنسانية: ألم وصراع وأمل وربيع وانبعاث. وكان بحاجة إلى صوت يستطيع أن يترجم الشعر للناس، فجاء دور حمد الريح الذي يعرف كيف "يلبس النص لحناً" ويبعث فيه حياة. غنّى القصيدة بروح فيها وقار وخفة صوفية ودفء، فغدت واحدة من الخالدات.

استطاع حمد الريح أن يقدم الشابي بطريقته، وأن يجعل القصيدة تنساب إلى الأذن السودانية رغم فصاحتها، بينما ظل الشابي عبر شعره يبث رسالة الخلود:
أن الصباح مهما تأخر… فإنه يأتي.

وهكذا، بين الشاعر والمطرب، تولدت أغنية لا تموت… مثل الصباح ذاته.

 


0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار