سيرة فنان حمل التراث في الذاكرة والناس في الوجدان
مدرسة فنية صنعت الجمال من الحكمة والبساطة
حبيبة عمري… قصة قلب فشل في الاخفاء والكتمان
في ذكرى رحيل الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي الرابعة، نستعيد سيرة صوتٍ لم يكن مجرد مطرب، بل كان مشروعًا ثقافيًا متكاملًا، حمل الوطن في حنجرته، والناس في وجدانه، والتراث في ذاكرته.
وُلد الكابلي في مدينة بورتسودان عام 1932، وعاش عمره بين الشعر واللحن، والبحث في أعماق الموروث الشعبي، فصنع لنفسه مدرسة فنية خاصة، تمتزج فيها الحكمة بالبساطة، والصدق بالجمال. لم يكن حضوره على الساحة الفنية عابرًا، بل ظل ثابتًا كمعلم من معالم الوجدان السوداني، يوقظ في الناس الحنين، ويزرع فيهم معاني الانتماء والبهجة الهادئة.
في الثاني من ديسمبر 2021 غاب الجسد وبقي الأثر، ورحل الكابلي ليبدأ رحلة الخلود في ذاكرة السودانيين، حيث لا سلطان للنسيان، وترك وراءه إرثًا من الأغنيات والكلمات والمواقف التي تشبه الوطن في نقائه وصبره وأمله.
إن استحضار سيرته في ذكرى وفاته ليس مجرد وفاء لفنان، بل هو تجديد للعهد مع الفن الأصيل، ومع السودان الذي غنّى له فأحبه، وأحبه الناس لأنه غنّى لهم بقلوبهم. سيبقى عبد الكريم الكابلي صوتًا لا يشيخ، وذاكرة لا تموت، ونجمًا لا ينطفئ في سماء الإبداع السوداني.
وفي هذه المناسبة، نستحضر واحدة من أجمل أغنياته، أغنية (حبيبة عمري) للشاعر الحسين الحسن، والتي ظلت تسكن القلوب منذ أن صدح بها صوت عبد الكريم الكابلي. وهي قصيدة حب رقيقة، تفيض بمشاعر العشق الدافئة، التي يحاول الشاعر إخفاءها، لكنه يكتشف أن هذا الحب قد تسرب وتفشّى دون إرادته. وتتناول الأغنية محاولة الحفاظ على الحب سرًا، لكنه في النهاية يجد أن العواطف لا يمكن حبسها.
«حبيبة عمري تفشّى الخبر وزاع وعمّ القرى والحضر»
يعبر الشاعر هنا عن انتشار خبر حبه في كل مكان، في القرى والحضر، دون أن يتمكن من إخفائه، ويرمز ذلك إلى قوة الحب التي لا يمكن السيطرة عليها.
«وكنتُ أقمتُ عليه الحصون وخبّأته من فضول البشر»
حاول بكل جهده أن يحمي هذا الحب من أنظار الآخرين، وبنى حوله حصونًا للحفاظ على سريته، وهنا تظهر محاولة الحفاظ على خصوصية مشاعره بعيدًا عن فضول الناس.
«وصنعتُ له من فؤادي المهاد ووسّدته كبدي المنفطر»
الحب بالنسبة له شيء مقدس، وفر له المأوى داخل قلبه، وحتى قلبه المنفطر لا يزال يحتفظ بهذا الحب ويعتني به.
«ومن نور عيني نسجتُ الدثار ووشّيته بنفيس الدرر»
يشبّه حبه لمحبوبته بأنه نسج دثارًا من نور عينيه ليحميه، ووشّاه بأغلى ما يملك، في إشارة إلى أن هذا الحب هو أثمن ما لديه.
«ومن حوله كم شبكتُ الضلوع فنام غريرًا شديد الحذر»
يجسد الحب كطفل نائم بريء داخل القلب، محميّ بالضلوع، لكنه شديد الحذر خشية أن ينكشف.
«قد كنتُ أعلم أن العيون تقول الكثير المثير الخطر»
يدرك الشاعر أن العيون قد تفصح عما في القلب، فهي تكشف مشاعر الحب رغم الحذر.
«فعلّمتها كيف تخفي الحنين تواريه خلف ستار الحذر»
رغم إدراكه لقدرة العيون على التعبير، حاول تدريب نفسه على إخفاء مشاعر الحنين والحب خلف ستار من الحذر.
«فما همسته لأذن النسيم ولا وشوشته لضوء القمر»
يؤكد أنه لم يبح بهذا الحب لأي أحد، ولم يهمس به حتى للنسيم أو للقمر، تأكيدًا على أن سره محفوظ تمامًا.
«ولكن برغمي تفشّى الخبر»
رغم كل محاولاته لإخفاء هذا الحب، انتشر الخبر رغماً عنه، ليؤكد مرة أخرى أن مشاعر الحب لا يمكن حبسها.
«حبيبة قلبي وهل كان ذنبي إذا كنتُ يومًا نسيتُ الحذر»
يعبّر هنا عن ضعفه أمام الحب، معترفًا بأنه ربما نسي الحذر في بعض اللحظات، فكان ذلك سبب انكشاف مشاعره.
«ذكرتُ مكانًا عزيزًا عليّ وأنتِ به وأنا والاخر»
يتذكر الشاعر لحظات حب جميلة جمعته بمحبوبته في مكان مميز، وتستدعي هذه الذكريات مشاعر الحنين والاشتياق.
«ذكرتُ حديثك ذاك الخجولا وصوتك ينساب منه الخطر»
يصف حديث محبوبته بالخجول، لكن صوتها يحمل خطرًا، لما له من سحر قادر على إضعاف قلبه وكشف مشاعره.
«حبيبة قلبي تقولين ماذا؟ تقولين… ويحي، وهل كنتُ أفهم حرفًا يمر؟»
يعترف الشاعر بأنه كان مأخوذًا بصوتها أكثر من الكلمات نفسها، فالتأثير العاطفي للصوت فاق المعنى اللغوي.
«فصوتك كان يهدهد روحي ويحملني بجناحٍ أَغَرّ»
يشبه صوت محبوبته بأنه ملاذ لروحه، يأخذه إلى عالم آخر مليء بالراحة والسكينة.
«يحلق بي حيث لا أمنيات تخيب ولا كائنات تمر»
ينقله صوتها إلى عالم مثالي، تتحقق فيه الأمنيات، ولا يعكره أي وجود مؤلم.
«وقفتُ عليه أدقّ الجدار فما لان هونًا ولم ينشطر»
يقف الشاعر أمام جدار من الألم أو الواقع، يحاول تجاوزه، لكنه لا يستجيب، في دلالة على صعوبة الظروف أو قسوة الفقد.
«وعدتُ تذكّرتُ أن هواك حرامٌ على قلبي المنكسر»
يعود إلى واقعه الأليم، ويشعر أن هذا الحب ممنوع على قلبه المتعب، ربما لاستحالته أو لمرارة التجربة.
«ما كنتُ أنوي أقول الكثير ولكن برغمي تفشّى الخبر»
يعترف في الختام بأنه لم يكن ينوي الإفصاح عن حبه، لكن المشاعر غلبته، وانتشرت رغم إرادته.
المعاني الأساسية في الأغنية:
الحب المخفي:
تعبر الأغنية عن حب مكبوت، حاول الشاعر إخفاءه، لكنه تفشّى رغم كل محاولاته.
العواطف القوية:
الحب يتسم بالقوة والعمق، ويظهر تأثيره الواضح على الشاعر رغم سعيه للكتمان.
الصراع بين الرغبة والواجب:
حالة صراع دائم بين الإفصاح عن الحب وضرورة الحذر والسكوت.
الحنين والذكريات:
تعكس الأغنية الحنين إلى لحظات مضت، وتأثير الذكريات في إشعال المشاعر من جديد.
تجمع الأغنية بين جمال كلمات الشاعر الحسين الحسن، ورقة أداء الفنان عبد الكريم الكابلي، مما يجعلها واحدة من أبرز الأغاني السودانية التي عبّرت عن المشاعر الإنسانية بعمق وصدق وتأثير خالد.

0 التعليقات:
أضف تعليقك