حين يلتقي التصوف بالشعر… تتجلى الحكاية في أبهى صورها
عندما يصبح القلب مرآة… سيرة روحية تفيض بالإلهام
ـ في ميدان المساجد بالإسكندرية حيث تتجاور الأضرحة وتتعانق المآذن في فضاء واحد من النور والذكر، يبرز اسم سيدي ياقوت العرش الذي صار أحد أعلام التصوف ومقامات الولاية في المدينة الساحلية التي احتضنت عبر قرون رموز الزهد والعرفان.
قصة هذا الولي الجليل ليست مجرد سيرة رجل عاش في زمن مضى، بل هي حكاية إنسان تجاوز قيود العبودية إلى أفق الحرية الروحية، وجعل من قلبه مرآةً للعرش الإلهي.
ـ من الحبشة إلى الإسكندرية… تشير الروايات المتواترة إلى أن ياقوت بن عبد الله كان حبشي الأصل، وقد جُلب صغيراً إلى مصر في زمن كانت فيه السفن تتنقل بين سواحل شرق إفريقيا والبحر المتوسط حاملة البضائع والأرواح على حد سواء.
قُدِّر له أن يُباع غلاماً في الإسكندرية، إلا أن القدر الإلهي كان يعدّه لطريق آخر، فقد انتهت به الرحلة إلى بيت الإمام العارف بالله أبي العباس المرسي، أحد كبار أئمة الطريقة الشاذلية وتلميذ القطب الصوفي أبي الحسن الشاذلي.
تصوف وسلوك
ـ منذ لقائه الأول بالشيخ المرسي أبي العباس تغيّر مجرى حياة ياقوت العرش إلى الأبد… رأى فيه الشيخ قلباً نقياً وعقلاً فطناً وروحاً شفافة قابلة لحمل الأسرار، فأعتقه من الرق وأدخله في سلك مريديه المقرّبين، ورباه على نهج الشاذلية في العلم والتقوى والذكر.
كان ياقوت ملازماً لشيخه ليلاً ونهاراً، ينهل من علمه ويتربى على يديه في طريق التصوف والسلوك. وروي أن الشيخ المرسي قال عنه يوماً: «ياقوت هو مرآة قلبي، أراه بعين سري كما أرى نفسي.»
بهذه الكلمة من شيخه ارتقت مكانة ياقوت الروحية حتى صار بعد وفاة المرسي من كبار أقطاب الإسكندرية، وورث عنه أسرار الطريق الشاذلي، فكان استمراراً للنور الذي أضاءه الشاذلي والمرسي من قبلهما.
ـ كان يردد لتلاميذه: «من ذاق عرف، ومن عرف عشق، ومن عشق فني عن نفسه وبقي بالله.»
وهكذا ترسّخت الصلة بين الشيخ والتلميذ… صلة روح بروح، وعلم بنور، حتى صار ذكر أحدهما يقود بالضرورة إلى ذكر الآخر.
بيئة روحية
ـ نشأ ياقوت في بيئة علمية وروحية بالغة العمق، فجمع بين علوم الشريعة وأسرار الحقيقة. لم يكن كثير الكلام ولا صاحب صيت في الأسواق، لكنه كان ذا حال ومقام رفيع بين الصوفية.
كان يرى في الفقر غنى، وفي البساطة سموّاً، وفي الخدمة عبادة. لم يسعَ للجاه ولا للسلطان، بل اتخذ من الخلوة سبيلاً للصفاء، ومن الذكر وسيلة للاتصال بالله.
ويقال إن كراماته كانت تُروى في المجالس، منها أنه كان يسمع أصوات حملة العرش في خلوته، ومنها أن مريديه كانوا يجدون في حضرته طمأنينة وسكينة كأنهم في ظل العرش نفسه، ومن هنا اكتسب اسمه القدسي الذي لازمه حتى بعد رحيله.
ـ يقع مسجد وضريح سيدي ياقوت العرش في منطقة بحري بميدان المساجد في الإسكندرية، حيث يجاور مقامي الإمام أبي العباس المرسي والإمام البوصيري والشيخ المنوفي، فتغدو المنطقة كلها لوحة روحانية تجمع رموز التصوف والعلم في مكان واحد.
يُزار ضريحه على مدار العام، ويتوافد الناس إليه في يوم مولده، يقرأون الفاتحة ويحيون ليالي الذكر، فتتحول المئذنة الصغيرة إلى منارة للروح تشع بالأنوار والابتهالات.
ـ توفي سيدي ياقوت في ليلة 18 جمادى الآخرة سنة 732 هـ، ودُفن في ضريحه الذي صار قبلة للزائرين.
ياقوت والفيتوري
ـ لم يكن سيدي ياقوت العرش مجرد رمز ديني، بل صار في الوجدان العربي أيقونة روحية ألهمت الأدباء والشعراء، وعلى رأسهم الشاعر السوداني الكبير محمد مفتاح الفيتوري الذي كتب قصيدته الشهيرة «ياقوت العرش» والتي نسب اسمها لزاهد من أصحاب أبي العباس المرسي. يكتب الفيتوري بروح صوفية كامنة تتخلى عن كل طمع بسلطان، مجسداً فيها المعنى الإنساني العميق للزهد والحرية والكرامة.
يقول الفيتوري في بعض أبيات قصيدته:
ياقوت العرش
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظن الأشياء
هي الأشياء..!
بهذه الافتتاحية يرسم الفيتوري صورة العالم المقلوب، حيث لا يملك المال معنى ولا السلطة وزناً، بل إن الغنى الحقيقي هو في الفقر إلى الله.
يتجلّى ياقوت في القصيدة بوصفه رمزاً للزاهد الذي أدرك جوهر الوجود، فصار سلطاناً دون تاج، وملكاً بلا عرش.
ويواصل الفيتوري في بيت آخر ويقول:
تاج السلطان الغاشم تفاحة
تتأرجح أعلى سارية الساحة
تاج الصوفي يضيء على سجادة قش.
هنا يقارن بين تاجين: تاج السلطان الزائف الذي يلمع بذهب خادع، وتاج الصوفي المتواضع الذي يضيء بنور القلب والإيمان.
إنه انقلاب شعري في منظومة القيم، يضع الولي فوق السلطان، والصفاء فوق الثراء، والإيمان فوق المظاهر.
وفي مقطعٍ آخر يقول الفيتوري:
الأعظم من قدر الإنسان
هو الإنسان.
إنها ذروة الوعي في القصيدة، إذ يدعو الشاعر إلى أن يُقاس الإنسان بإنسانيته لا بمنصبه أو لونه أو طبقته.
وهذا المعنى هو جوهر سيرة ياقوت العرش، الذي تحرر من عبودية الجسد إلى حرية الروح، فصار إنساناً كاملاً في إنسانيته.
ـ ياقوت العرش في شعر الفيتوري ليس مجرد اسم لشخص عاش قبل قرون، بل رمز إنساني خالد.
ففي سيرة ياقوت نرى تلميذاً حبشياً أسود البشرة يصبح ولياً أبيض القلب، وفي قصيدة الفيتوري نرى شاعراً أفريقياً يكتب للإنسان أياً كان لونه أو نسبه.
كلاهما (الولي والشاعر) حمل قضية الكرامة في وجه الجهل والظلم، وسعى لأن يجعل من الروح وطناً، ومن النور سلاحاً.
ـ في عالم مملوء بالصراعات والمظاهر الخادعة، تظل رسالة ياقوت العرش ونداء الفيتوري نداءين خالدين يدعوان إلى التوازن بين الأرض والسماء، بين العمل والعبادة، بين الحرية والخضوع لله.
إنهما يذكراننا بأن الفقر لا يُقاس بما نملك من مال، بل بما نملك من نقاء، وأن العظمة الحقيقية ليست في السلطة، بل في أن تظل إنساناً رغم كل ما حولك من قسوة وضجيج.
ـ ياقوت العرش هو حكاية الروح حين تنتصر على الجسد، وهو درس عميق في معنى الإنسانية التي تتجلى في العبودية لله وحده.
كتب عنه الفيتوري ليقول لنا إن «الأعظم من قدر الإنسان هو الإنسان»… فهل نزال نعي هذا الدرس بعد قرون من الزيف والمظاهر؟
إن ذكرى ياقوت تذكرنا بأن المجد الحقيقي لا يُصنع في القصور، بل في القلوب الطاهرة التي جعلت من الحب والذكر والصفاء طريقاً إلى الله، ومن الإنسانية عرشاً لا يزول.

0 التعليقات:
أضف تعليقك