الجمعة 21/نوفمبر/2025

همسات من ضمير الغيب

همسات من ضمير الغيب

 

 

تهمس في مسمعي همسات قادمة من عالم الغيب، أنفاسٌ لا تُرى لكنها تملأ الوجدان، وخيالات الأماني ترفرف حول مضجعي كفراشاتٍ حالمة في ظلمة الليل.
وأنا بين ضلوعي أجد نفسي غارقًا في بحرٍ من الشوق المتلاطم، لا أعي تمامًا كيف يمكن للقلب أن يحمل كل هذا الحنين إلى أرضٍ غابت عن عيني، ولكنها لم تغب عن روحي.

عربدت بي هواجس الشوق حين طال النوى، وتوالت زخّات الذكريات العطرة بالهوى، كل ذكرى منها كعطرٍ يفوح من ماضٍ جميل. إنه حنينٌ لا يُقاوم، يدفعني في هذه الأيام دفعًا نحو العودة إلى الوطن، إلى السودان، وإلى تلك الجوهرة المخبأة في قلبي: سنجة.

سنجة... المدينة الساحرة، حيث يقطن الأهل والأحباب، وحيث تختزل الحياة أجمل معانيها. هناك، حيث البساطة تصنع الفرح، والوجوه المشرقة لا تعرف الغربة. فيها يتحول الوقت إلى نسيجٍ من الدفء الإنساني، بعيدًا عن ضجيج المدن الصاخبة والظالمة، التي تختنق فيها الأنفاس مع اقتراب الساعة الرابعة مساءً تحت وطأة "الضباب" الذي لا يَحجُب الطرقات فقط، بل يحجب القلوب أيضًا.

في سنجة تكون الراحة هي اللغة السائدة، والارتياح هو الإيقاع اليومي. لا عجلة مروّعة، ولا سباق محموم وراء الوقت. هناك، في تلك المدينة التي بيضتُ فيها صباي، ترعرعت بين أحضانها، وتعلمت فيها معنى البسمة المجانية، وطعم الكرم الحقيقي، ودفء اللقاءات التي لا يشوبها تكلّف، في صالون جدي – رحمه الله – حسن مصطفى البطحاني (أبو التقيلة).

نعم، في الخارج قد تتوفر كل مقومات الحياة المادية من رفاهية ورَغَد، ولكن عند المنعطفات المصيرية، وعندما تشتد وطأة الغربة، يكون الوطن هو الملاذ الوحيد. وتكون سنجة على وجه الخصوص هي المدخر الروحي الذي نلجأ إليه. إنها ذلك الحضن الدافئ الذي يحتوي أرواحنا المتعبة، والمكان الذي نعود إليه لنذكّر أنفسنا بجمال ما كنا عليه، قبل أن تغيّرنا صخب المدن وهموم الحياة.

الوطن ليس مجرد أرض، بل هو هوية الروح وسرّ الاستقرار. وسنجة تظل تتوهّج في الذاكرة كنغمةٍ شجية تنادينا من بعيد، همسًا خافتًا في الضمير يذكّرنا بأن السعادة الحقيقية تكمن في البساطة، وفي تلك الزاوية الهادئة من العالم، حيث ما زال القلب ينتمي.

 

 

 

 

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار