في هذا الظرف الوطني الدقيق، الذي يُعتَبَر فيه نادي الهلال المتحدث و"الناطق الرسمي" باسم السودان ومبعوثه الدائم في المحافل الدولية، تتفرغ أقلامُنا لدعم مسيرة هذا الجهد في الدبلوماسية الرياضية، وتترفع عن المعارك "الانصرافية" التي يظنُّ مُشعِلوها – بجهلٍ منهم – أن الاهتمام والكتابة عن الرياضة في زمن الرصاص ضربٌ من الخيانة الوطنية.
وسنعود بالتأكيد لنكتب عن الانتهازي وناكر الجميل.
نكتب اليوم عن الهلال، الذي سيفتتح غداً واحداً من أهم "المسارات الإنسانية" بالنسبة للسودانيين المتأثرين بالحرب؛ من معبر ملعب أماهورو بالعاصمة الرواندية كيجالي، لتصل شحنات المعنويات للاجئين السودانيين في معسكر (كرياندونقو) بالعاصمة اليوغندية كمبالا، ولتُسهم قليلاً في مسح دموع من وصلوا سيراً على الأقدام من بارا والفاشر إلى "بيوتهم" ومعسكرات "المحبة" بمدينة الدبة، التي تؤكد أن الدم السوداني واحد.
نعم… تقع على عاتق لاعبي الهلال غداً مسؤولية إزاحة كل "الهموم" الوطنية التي صنعتها الحرب، وأن يدركوا تماماً أن الأمر – في ظرفنا الحزين هذا – يتجاوز مجرد نتيجة مباراة في كرة القدم؛ فهو عملية "نقل دم" للوريد السوداني النازف، ومحاولة لمعالجة الهبوط الحاد في معنويات من أذاقتهم الحرب مُرَّ النزوح وعلقم اللجوء.
ليَقِف "القائد" محمد عبد الرحمن في المحاضرة الأخيرة، وبعد الوصايا الفنية للمدرب ريجيكامب، ليشرح لإخوانه حجم المهمة الوطنية التي هم بصدد تمثيل السودانيين فيها، وليذكّرهم بأن كل البيوت السودانية التي سُرِقت ودُمِّرت، وحوّلها مجرمو الحرب إلى مقابر دُفن فيها من نحب، تحتاج منهم اليوم إلى "إسقاط" ناجح… إسقاط يعيد الروح لكل شيء جميل قتلته الحرب، لا من أجل ثلاث نقاط في رصيد المنافسة، بل من أجل "ترميم" الخاطر السوداني المكسور.
مباراة الغد هي صوتُنا في الإذاعات، وصورتُنا على شاشات العرض، التي نثبت بها للعالم أن الحرب لم تهزم شعب السودان ولم تكسر إرادته، وأن "نحن جند الله جند الوطن" ستظل مسموعة رغم أنف كل من أراد لشعبنا الخضوع والانكسار.
مباراة الغد هي فرصتنا – يا لاعبي الهلال – لأننا كسودانيين أهل فضل وكرم، وما قدمته المدرجات الرياضية للقضية السودانية من تضامن إنساني عظيم يستحق أن نردّه إليهم بتحية أحسن منها.
لا يمكن أن يكون الآلاف من مشجعي كرة القدم الذين رفعوا لافتات السودان وعَلَم السودان في مدرجاتهم، في عزّ منافساتهم المحلية، على خطأ…
ولا يمكن أن يكون الشغف بكرة القدم مجرد "لعب ولهو"، بينما الصواب هو لدى مُدَّعي "الشرف" والراقصين على خشبات "كباريه" المواقف الانتهازية.
اليوم يضع التاريخ الهلال في امتحان حقيقي، ليشارك في كتابة سطور المجد للشعب السوداني، ولإثبات أن "أركان" الدولة لن تنهار لمجرد تكالب الشر عليها، وأن الرياضة السودانية – وفي زمن الحرب – لديها ممثل ضمن "الكبار" في القارة الإفريقية.
وأنه، رغم حرمانه من امتياز الأرض والجمهور، لا يزال يحافظ على وجود "العَلَم" خفّاقاً بين الأمم.
الظرف الذي يعيشه السودان يجعل من هلال "الأمة" واحداً من ممسكات الوجدان السوداني الذي مزقته الحرب بالقبيلة والانتماءات الضيقة؛ فالانتصار يصنع وجداناً وطنياً واحداً، عابراً لضيق الأفق، ممتداً لاتساع الدبلوماسية الرياضية كإحدى أهم أدوات بناء الوجدان الوطني.
وفي ذلك استدعاء لروح وقيم جيل المؤسسين لنادي الحركة الوطنية.
قيمة الرياضة – والتي يمثل السودان فيها الهلال الآن – أنها القادرة على رتق "الفتق" الاجتماعي الذي صنعته الحرب.
هي خارطة الوطن التي تجمع "البحر والنهر" و"الغابة والصحراء"، وهي "الحاكورة" التي تخص الجميع.
وهل سَلِمنا من "الخماسي" الذي قطعت أوتاره الحرب اللعينة؟!
هو نَعْيُنا الأليم في الشاعر محمد عبد القادر أبو شورة، الذي ترك لنا في إرثنا الغنائي الوطني:
حدِّق العيون ليك يا وطن
أصبح مقر وأصبح سكن
إنت الملاذ ساعة المحن
إنت الشموخ عبر الزمن
0 التعليقات:
أضف تعليقك