في أعماق كلٍّ منّا ذكرياتٌ دفينة نحاول نسيانها؛ ذكريات تحمل في طياتها ألماً ومشاعر ثقيلة نرغب في تجاوزها. لكن يحدث أحياناً أن تأتينا لحظة ضعف، فنقرر الخوض في تلك الزوايا المظلمة من ماضينا، ننبش ذكريات بعيدة وكأننا نبحث عن شيءٍ فقدناه.
غير أن الحقيقة المؤلمة هي أن بعض الذكريات تشبه الجروح القديمة التي التئمت ببطء، وعندما نعيد فتحها لا نجد سوى الألم نفسه الذي اعتقدنا أننا تجاوزناه. فالذاكرة خيانة أحياناً؛ تقدم لنا الماضي مُصفّىً بمشاعر الحنين حيناً، ومشوهاً بوجع الحقيقة حيناً آخر.
قبل سنوات، ودّعتُ أياماً وليالٍ مظلمة وثقيلة. تركتُ خلفي زمناً كان كالحلم الثقيل، وحملت معي جراحاً ظننت أنها قد التئمت. لكن حين تعود بنا الذاكرة إلى تلك اللحظات، نكتشف أن الجرح لم يَبرَأ تماماً؛ بل هو نائم تحت رماد النسيان، ينتظر نفخةً من الماضي ليعود مشتعلاً.
لماذا نعذّب أنفسنا باستدعاء ما يؤلمنا؟
ربما لأننا نبحث عن فهمٍ أعمق لحاضرنا، أو لأننا نظنّ أن في استحضار الألم شفاءً. لكن الحكمة تقول إن بعض الجروح تُترك لتلتئم في سلام، وإن بعض الذكريات تبقى كالسراب لا تقدّم سوى الوهم والألم.
الحياة رحلة نتعلّم فيها أن نحمل معنا ما يخفّف عنا، ونترك وراءنا ما يثقل خطواتنا. الذكريات المؤلمة حمولةٌ ثقيلة لا ضرورة لحملها؛ فهي تشبه صندوقاً مُغلقاً في قبو المنزل، نعلم أنه موجود، لكننا لا نفتحه لأننا نعرف ما بداخله.
في النهاية، القلب كائنٌ حيّ يحتاج إلى الحماية والرعاية، واستدعاء الألم يشبه سقي النبتة بماءٍ مسموم.
فلنتعلّم متى نُغلق أبواب الماضي، ومتى نترك الليل المظلم وراء ظهورنا، ونمضي نحو فجرٍ جديد يحمل لنا الأمل والسلام.
0 التعليقات:
أضف تعليقك