الغناء للأمكنة فنٌّ ذاع في أدب الغناء السوداني، فيه لمحات مبهرة من صيغ الجمال، وهذا لا يكون إلا من وحي المكان وحُسنه.
محمد عوض الكريم القرشي، مبارك المغربي، عَلَمان في هذا الضرب الغنائي البديع، كلاهما كان أسيرًا، شغوفًا، محبًّا، مُدنَفًا بعروس الحقول الخضر "ود مدني".
"ما أبهى الجزيرة
ما أجمل بدورها
ما أبدع طيورها
ما أينع زهورها
سحرتني الجزيرة
استوحت خيالي
أقمارها المنيرة
وجمالها المثالي"
ذاع النص الجميل، وذات مساء جميل صفا سماؤه، تدلّت فيه أشعة النجوم فضةً وذهبًا وأرجوانًا، ألقت بركةً من نورٍ على الرمل.
كان الخير عثمان يقرأ النص مأخوذًا بلطفه وعفويته، سهر ليلته تلك، ولما أفل آخر النجوم بدأ وحي اللحن يتنزّل.
في البيت الأنيق في حي "الدباغة" العتيق، صُفّت المقاعد، وانتظم عقد "الجوقة الموسيقية"، ثم بدأ تصميم لحنٍ فَتَنَ الأسماع.
محمد عوض الكريم القرشي قدم للمدينة، كان مهرجانًا لمدرسة حنتوب الثانوية، ولما عبر النهر راعه ما رأى من ميادين وملاعب، ولكل شيء فتنة، و"الهدهد" يعيد أمجاد سالفات، لكن أين "بلقيس"؟
وفي النادي الأسطوري، نادي الجزيرة، جلس ود القرشي، شدَّ أوتار العود العتيق، وبدأ اللحن الخالد الأثير:
"منظرها البديع
يا روعة جلالو
تعجب حين تزورو
تجلس بين ظلالو"
ثم:
"للنيل باقية شامة
والهدهد علامة"
وحنتوب هذه علامة في صفحة التاريخ العلمي، الفني، الثقافي، والرياضي.
إن من لم يرَ حنتوب فقد فاته كثير من محاسن المعالم المنيرة.
من اتصل بهذا الصرح لا يستطيع تجاوزه، خريجو حنتوب يزورونها وإن شطّ المزار، يبكون على أمكنة كانت مهد ذكريات...
الإنجليز رحلوا عن السودان، وبقي في الذاكرة شيئان: مشروع الجزيرة وحنتوب الثانوية.
ولما دُعي مستر "براون" لحفلٍ أُقيم في "بكنجهام" استجابةً لرغبة رئيس السودان — وكان طالبًا في المدرسة — ما نسي الطالب "الرئيس" أستاذه ناظر حنتوب، فبكى المعلم الإنجليزي، وكان حلمًا أسدته له حنتوب وهو في خريف عمره، إذ أتاحت له السلام على المليكة، فتأمل!
ومن أروقة حنتوب، من ميادينها الخُضر اليانعات، من ليالي المسرح وإبداعات الطلاب، من هنا كان الهادي آدم الهادي و"أغدًا ألقاك"، وكان جيلي عبد المنعم، محمد عبد الحي، النور عثمان، صلاح أحمد إبراهيم، الزين عباس عمارة، "الضياء والحريق".
هذه مؤسسة مسكونة بالإبداع والعلم.
حميدة أبو عشر، "نجار مدرسة حنتوب"، ذلك الذي رسم لوحة زادها الزمان ألقًا:
"وداعًا روضتي الغناء
وداعًا معبدي القدسي"
شكوى، دموع، ومهجةٌ حيرى، ويأس، أسئلة أطلقها روح معنى، إنها كل مفردات الأسى والوجع، وتذكّر ليالٍ أضاءها حلو النجوى والشعر:
"أظل أردد الشكوى
لِما لاقيت من وجدي
ولِما لم أجد سلوى
كسرت إبريقي والدنا
سكبت على الثرى كأسي"
نصٌّ من شرفات أدب الغناء السوداني، بل والعربي، لا ريب.
كل هذه الصور تترى أمامك، تملأ روحك أسًى فاجعًا.
ثم دعني أستأذنك، أذهب بك إلى أيام "البحتري"، نسمع معًا:
"صُنتُ نفسي عمّا يُدنِّس نفسي"
ثم نطوي الزمان ونعود، نسمع أحمد شوقي في صالونه الأدبي الأرستقراطي "كرمة ابن هانئ"، وهو يستعيد ذكريات أمسٍ حزين:
"اختلافُ النهارِ والليلِ يُنسي
اذكُرا لي الصِّبا وأيامَ أنسي
وصفا لي مَلاوةً من شبابٍ
صُوِّرتْ من تصوراتٍ ومَسِّ"
هذه شذرات من كريم الأشعار، مضى الزمان، ما بَلى ثوبها، بل زادها الزمان ألقًا فخلدت.
النصوص الثلاثة البرّاقة انتظمت على نسق حرف الرويّ "النون"، وما فيه من جرسٍ وسيمفونية.
البحتري كتب النص واصفًا "إيوان كسرى"، ولفارس مجدٌ وفنونٌ ونعيم.
وأحمد شوقي غلبه الشوق لمصر، أسال لوعته وأساه على القرطاس.
قُل إذن: أين ترى "روضتي الغناء"؟ في أي مقامٍ هي؟
تظل "روضتي الغناء" تتبع خطوك، تمسّ ما ظننته سكنًا، تُثير لواعجك، فأنت أسير، يبثّها الأثير في شرايين الليل، في دور السينما والميادين، في المقاهي، حتى إذا خلَدت إلى فراشك تسلّل إلى القلب "ظلموني الأحبة".
أنت لا تجد مهربًا: حميدة أبو عشر والكاشف مرة، ثم أخرى مع "أبو عفان"...
إنه الغناء المفصح عن الإنسان، في كل فصول حياته، نعيمًا وعذابًا.
أعود معكم... ومشروع الغناء الجديد يُبثّ بأفواه البلابل.
تحية خضراء.
0 التعليقات:
أضف تعليقك