نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
مدائن النور... 2
في الأصيل، بعد انقضاء ساعات العمل، يتناثرون حول ميادين الأندية: نادي الأهلي، نادي الاتحاد.
تثيرهم جسارة سمير، وسحر محجوب الله جابو، والسر الله جابو، أبناء ضاحية "الملكية".
إبراهومة الكبير هذا، كان يفعل بالكرة ما شاء له المزاج؛ يشق طريقه إلى المرمى كعاصفة استوائية.
الفاضل سانتو وإخوانه (سانتو إخوان)، يغدو الأمر شيئًا آخر، ليس مدافعة، وليس ركلًا للكرة، لا، إنه شيء آخر، أوركسترا موسيقية متناغمة. إنه السحر، ولكم يكون الأمر مذهلًا إن صحب الأوركسترا ذاك الابنوسي الطويل "ماوماو"، كان طويلًا كنخلة في أول الصبا، يلتقط الكرات العالية، رأسه حقل مغناطيسي، كان يطوي جسده الطويل، ويبسطه، لا أحد يتجاسر. كان عفويًا بسيطًا، لكنه عبقري مهاب.
ثم جاءت أزمنة والي الدين وأبناء الهوارة، و"حموري إخوان"، وزيكو، وحمد النيل، وحمد والديبة (حاجة عجيبة)...
ثم، حتى إذا أقبل الليل، أطل موسم آخر للمتعة، وأهل ود مدني لا يتبعون التقويم المألوف: صيف، شتاء، وخريف. لا، بل لهم تقويم خاص، أقربهم للروح تلك الأصائل وما يعمرها من مهرجانات إبداعية فنية.
في كل عام، تنساب المياه في شرايين الأرض الطيبة، تتفتق لوزات القطن، تمتلئ خزائن المدينة، وينعم الناس برغد من الحياة. ومصانع الغزل في "لانكشير" تزدهي بقطن الجزيرة، القطن "طويل التيلة"، مفخرة الأناقة البريطانية، ومبتغى الطبقات المترفة. والتاريخ يعيد أحداثه، فالقطن في "مروي القديمة" ـ إبان الدولة المروية ـ كان محط أنظار أميرات القصور الفرعونية، يخطرن به في المراسم الدينية. ومن غيرنا يبني الحياة ويبتكر؟
رمضان حسن وأهله من "دار أم بلال"، من أحياء مدني الجنوبية الآن، هجر المدرسة، لكنه كان يزور المدينة، لا يغيب أبدًا، تعلق قلبه بالأغنيات. كانت ود مدني مزارًا للمبدعين، يأتونها زائرين، ثم تستهويهم، ثم يتعلقون بها عشقًا لا يبرحونها.
إبراهيم محمد أحمد أبو جبل، إبراهيم الكاشف كما هو مدوَّن في ذاكرة وقلب أهل السودان، ابن المدينة العظيمة، التقى ذات مساء الشاعر الغنائي سيد عبد العزيز. كان لقاءً بين صفوة الشعر ومركز الدائرة الغنائية، وبدأ النص البديع ينساب كمرّ الصبا. الكاشف يتبع النص مدندنًا، بدأت أجراس اللحن، موسيقاه تنساب قطرةً فقطرة.
لم يمضِ زمن طويل حتى استمع رواد ذاك المجلس الأنيق، فذهلوا، وأصابتهم قشعريرة ولوعة. كان ذلك حدثًا عظيمًا، بل فتحًا في مسار الغناء الرصين.
في منتصف العقد الرابع من القرن الماضي، وضع سيد عبد العزيز والكاشف المسار الفني الأول للغناء بالأوركسترا الموسيقية الكاملة.
ثم إنها:
"في الشاطئ طاب لينا السمر"
غناء للحياة، للقمر، للربيع، للشط والزهر، وغناء حتى أول الصباح:
بالله يا الباسم الوديع
غنِّي لي وقت السحر
الطقس صحو، الجو بديع
لا فيه برد، لا فيه حر
غنِّي أنشودة الربيع
فصل الربيع يا ما سحر
إبراهيم الكاشف، مدرسة البندر الأولية، ود مدني، الصف الثالث، غادر قاعة الدرس — هكذا ورد في حيثيات سجل مدرسته — فما الذي قذف به وأجلسه على عرش الغناء؟
هل هي هبة الله؟ أم عبقرية المكان؟ أم هي حالة استثنائية جاوزت ناموس الطبيعة؟
إبراهيم الكاشف ينجز كل شيء، لا يستعين بجلسات تفاكر وتقويم، ولا تستهويه "الورشة الفنية"، فهو من ينتقي النص، وهو من يصمم اللحن، وهو المؤدي وقائد الأوركسترا.
ولما قدم أساتذة الموسيقى الكوريون، استعرضوا ما انتُخب لهم من نماذج الغناء السوداني، كانوا يجلسون على الأرائك، وهواء النيل يعبث بالستار المخملي. "الحاكي" يبث الأغنيات واحدة تلو الأخرى، جلها متشابه، ثم بعد هنيهة يصدح همس موسيقي: المزهر، الكمنجات، الإيقاع، الدف، عصافير تشدو، ترسل ألحانًا متباينات، تمخر في صفحة فضاء الأثير ثم تعود إكليلًا من ترانيم.
ثم يسترسل الصوت الملائكي الطروب، يمنح كل هذا الجمال لمسَته الأخيرة، يرتقي عاليًا مرة، هامسًا أخرى، وأنت مأخوذ، تهتز أعطاف قلبك، تغفو على "مخدات الطرب".
"يشدو كأن لهاته
شدَّت على أوتار عود"
رفع أستاذ الموسيقى الكوري حاجبيه دهشة، وأمال النظارة الرفيعة، وفتح المذكرة الصغيرة، ودون على صفحتها كلمات شحيحة قليلة:
"ومن أي أكاديمية عريقة نهل هذا العبقري؟"
0 التعليقات:
أضف تعليقك