نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
"يا مسافر حليلك
يا حليل ابتسامك
يا حليل الليالي
الحلوين في غرامك
أيام بالاشارة
كنت ترد سلامك
ياما عيوني كانت
تسكر من مدامك"
هذه هي ود مدني، مدينة الخضرة والخير والجمال، موئل الثقافة والفنون. لكم أحبّها أهلها، لا يستهويهم مثلها أبداً. وللمدائن رمزية وعشق ووفاء.
كان الاستهلال بأغنية "أرض المحنة"، التي شغلت الناس كثيراً، وذلك لعذوبة لحنها ورقة مفرداتها وتعابيرها، وموسيقاها ذات الإيقاع الخفيف الراقص. كتب كلماتها فضل الله محمد، ولنا لقاءات طويلة معه.
محمد مسكين هو من تغنّى بهذا النغم الطروب، وفيه من لطف أهل الجزيرة وعشقهم للغناء، بل للفنون في كل ضروبها.
محمد مسكين ذو علاقة قربى وثيقة بفضل الله محمد.
ولعل "مسكين" هذه تثير بعض الدهشة، فالاسم غير مألوف، غير متوارد، غير أننا نقلب صفحات التاريخ فنقرأ لشاعر من أهل مكة اشتهر بنظم الشعر والغناء، هو مسكين الدارمي، وله قصة تُروى وأبيات شعرٍ صمدت للنسيان:
"قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسكٍ متعبّد
قد كان شمر للصلاة إزاره
حتى وقفتِ له بباب المسجد
رُدّي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحق دين محمد"
ولهذه الأبيات أقصوصة تُروى: فقد بارت بضاعة أحد التجار، وكان يبيع الخُمر (جمع خمار)، وكان يعيبها أن لونها أسود.
أشار إليه أحدهم بأن يستعين بالشاعر مسكين الدارمي، فذهب إليه مستغيثاً، فكتب مسكين الدارمي هذه الأبيات الرقيقات، فشاعت في المدينة، وانتبه إليها حِسان المدينة، فتزاحمن على المتجر وتسابقن على شراء "الخمار الأسود".
كان يوماً عظيماً، شهد ازدهاء السواد، وكان هذا أول "إعلان تجاري". وكم للشعر من سطوة!
ربما أسهبنا وأطلنا الحديث، وعلك تجد لنا عذراً، فهذه المدينة الملهمة تهب على قلبك صوراً من الجمال، تشعّ في الذاكرة كما أضواءٌ ساطعة، خيوط نورٍ لا تستطيع إمساكها، لا تدري كيف تبدأ، وأين تنتهي.
ود مدني... الأزرق التيّاه، عند بلوغه المدينة يُبطئ، يودّع قبلة على الشط، ينثني، وعلى الشط الغربي تزدهي جنّاتٌ بهيجات وسحرٌ يروي الروح.
هذه ود مدني، كانت أول عاصمةٍ للسودان أيام حكم محمد علي باشا، غير أنها استُبدلت بالخرطوم بعد عامٍ واحد.
هنا للرياضة شأنٌ وتاريخٌ زاهٍ، هنا أهلي مدني والنيل والاتحاد والمدينة وغيرها، هنا منجم الألماس، السحرة الكبار الذين حملوا شعار الوطن.
هنا للشعر والغناء أبوابٌ مشرَعات، وتاريخٌ يشعّ كالزمرّد.
هنا كان علي المساح وتجلياته، كان "زولاً" من غمار الناس، غير أنه أثْرى حياة المدينة — بل السودان كله — بروائع من عيون أدب الغناء.
فهل سمعت "غصن الرياض المايد"؟
قل لي — رجاءً — كيف أحسست؟
كيف انتابك شيءٌ من خدرٍ ورعشةٍ وأنت تحت أسر عبد العزيز داود أو ذلك الأسمر الطروب رمضان زايد وهما يصدحان بـ:
"أنا وحبك ترعرعنا
ونشانا ندايد
من زمنا قبيل ما
أيام قلال وعدايد"
ثم:
"سهران ليلي طال والعينين
صحت ما هجايد"
وهذا شعرٌ يمور برحيقٍ من سحرٍ وعاطفة، وتراكيب وصور وتعابير شعريةٍ تُشجي القلب.
هذا فكرٌ غنائيٌّ لا يُطال.
ذلك كان خطونا الأول في الدخول إلى شرفات الغناء الأصيل، ثم نتهيّأ، نتلمّس "مغاني الشعبٍ"، نزور الكاشف، نغشى الحاج سرور فقيه الغناء وقطبه، نتأمل مرتع صباه في ود المجذوب ضاحية المدينة.
ثم نرتاد دار فناني الجزيرة، ننعم بلقيا ثنائي الجزيرة، والخير عثمان، والباشكاتب، وأبو عركي، ورمضان حسن، وعبد العزيز المبارك، والحردلو.
نقرأ أشعار بدوي بانقا، وفضل الله محمد، والمساح.
هذه رحلة محفوفة بالجمال والحُسن... فهل تستطيع صبراً؟
ألقاك مجدداً.
0 التعليقات:
أضف تعليقك