الجمعة 21/نوفمبر/2025

مبادرة النشء العربي: منارة في مواجهة الاستلاب الثقافي وعزلة الأجيال

مبادرة النشء العربي: منارة في مواجهة الاستلاب الثقافي وعزلة الأجيال

 

في عصرٍ تتدفق فيه التيارات الثقافية بلا هوادة، وتتصارع فيه الهويات في ساحة العولمة المفتوحة، تبرز الحاجة الملحّة إلى مشاريع فكرية وتربوية تكون بمثابة مراكز إنقاذ للوعي، وحصون منيعة لحماية الهوية.
ومن أرض مصر، مهد الحضارات، تنطلق مبادرة "النشء العربي" بدعوة كريمة من الدكتورة هيام أبو العينين، حاملةً على عاتقها رسالة مصيرية: إنارة الطريق للأجيال القادمة وتمكينهم من مواجهة رياح التغريب والاستلاب الثقافي التي تهدد بتقويض كينونتهم.

هذه المبادرة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت استجابة واعية لواقع مرير نعيشه؛ واقع يتعرض فيه موروثنا الاجتماعي والثقافي الغني للتشويه والإهمال، بينما تغزو قيم استهلاكية فردية لا تعترف بالجماعة ولا بتاريخها.
لقد نجحت آليات العولمة المادية، عبر منصاتها الرقمية اللامتناهية، في خلق "عزلة اجتماعية" ممنهجة بين النشء ومكونات وعيهم الأساسية: لغتهم، وتاريخهم، وقيمهم، وفنونهم، وحكايات أجدادهم. هذه العزلة ليست بريئة؛ فهي تترك الفرد هشّاً، منفصلاً عن جذوره، مما يجعله فريسة سهلة للاستلاب الثقافي، يتبنى قيماً وسلوكيات غريبة عن نسيجه المجتمعي، فيفقد بوصلة هويته ويصبح أداة طيّعة في عملية "التدمير الممنهج" لأجيال بأكملها.

وهنا تتجلى عبقرية ورؤية المبادرة التي تشرفتُ بالمشاركة فيها إلى جانب الدكتورة هيام أبو العينين وعدد من المهتمين. فالمنهج التربوي الذي تقدمه لا يقف عند حدود التلقين أو الحفظ، بل يتعمق ليعيد بناء "الاتصال الحي" بين الطفل والموروث الاجتماعي.
إنه ليس حنيناً إلى الماضي بقدر ما هو استشراف للمستقبل، فالموروث ليس مجرد حكايات تُروى، بل هو مخزون قيمي وأخلاقي وجمالي هائل. من خلال القصص، والأمثال، والموسيقى، والفنون الشعبية، والعادات والتقاليد الأصيلة، يتمكن الطفل من التشبع بقيم التعاون، والاحترام، والصبر، والانتماء، والشجاعة الأدبية.

هذا التشبع هو السلاح الأقوى في معركة الهوية.
فحين يدرك الطفل جمال وعمق تراثه، يمتلك الثقة في نفسه وفي انتمائه. لا يشعر بالتبعية لثقافة أخرى "متفوِّقة"، بل يدرك أن له إسهاماً أصيلاً في الحضارة الإنسانية، مما يعزز مناعته النفسية ضد "الانعتاق الزائف" الذي تبيعه ثقافة الاستهلاك، والذي لا يؤدي إلا إلى مزيد من التمزق والاغتراب.
المبادرة تهدف إلى انعتاق حقيقي: انعتاق العقل والروح من عبودية التقليد الأعمى، وإطلاق الطاقات الإبداعية من خلال هوية أصيلة، لا على حسابها.

إن تعزيز الاتصال بالموروث هو في جوهره علاج للعزلة الاجتماعية التي يتسبب فيها العالم الافتراضي. فالمشاركة في أنشطة جماعية تستحضر التراث – كالحكواتي، والأناشيد الجماعية، والحرف اليدوية – تعيد بناء جسور التواصل بين الأطفال وبين مجتمعهم.
يشعر الطفل بأنه جزء من نسيج متكامل، له ماضٍ مشترك وحاضرٌ يعيشه مع الآخرين، مما يقيه شر الانطواء والتفكك الأسري والاجتماعي.

ختاماً، فإن مبادرة "النشء العربي" ليست مجرد مشروع تربوي؛ إنها حركة مقاومة حضارية.
إنها محاولة جادة لزرع بذور الثقة والانتماء في تربة الأجيال الناشئة، لتثمر مستقبلاً قوياً قادراً على التحدي والإبداع.
وهي دعوة لأن نتكاتف جميعاً – أفراداً ومؤسسات – لدعم هذه الرؤية الثاقبة، فاستعادة الوعي وبناء الإنسان هما المعركة الحقيقية التي سيتحدد على إثرها مصير أمتنا.
وإنه لشرف عظيم أن نكون جنوداً في هذه المعركة المصيرية، من أجل نشء عربي واعٍ، متمسك بهويته، فخور بانتمائه، وقادر على أن يقول كلمته في عالم الغد.

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار