نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
"الطير المهاجر"
صلاح أحمد إبراهيم
وللطيور حكايا، أقاصيص في متن النص الشعري الغنائي. قد يكون مرد هذا لرومانسية غالبة على طبع ومزاج أهل السودان، وقد يرون في الطائر رسول شوق بين حبيبين طال أمد لقائهما، وقد يكون الطائر رمزاً لروح مستهامة براها شوق ضار.
لكنما، لصلاح أحمد إبراهيم، رسول يطوي البيد، حاملاً رسالة شوق، والخريف باسط ثوبه السندسي، ولعل الشاعر اختار هذا الفصل لما فيه من نعماء وخير، هو موسم الإكثار، وأفراح تغمر الزرع والإنسان، وللأنسام صحو، وللزهور عبق، وللطيور حضور أنيق.
"طال بيهو الحنين
فاض بيهو الشجن"
ولما فاض القلب شوقاً، أفرد "الطير" جناحيه؛ الرحلة طويلة، وضرام وجد يعصف بالروح، وصلاح أحمد إبراهيم، هو طائر أيضاً لا ريب، فقد ظل حياته كلها مسافر، رحّال بين مقار سفارات بلده الذي أحب، متنقلاً بين مهرجانات الشعر، وعندما يحل في مدينته الأثيرة "مدينة من تراب" كما وصفها، في رثائيه صفي الروح علي المك.
انظر معي لعمق الدلالة في هذا التوصيف، ثم قل لي؟
قضى صلاح زماناً في "أكرا"، يشجيه صوت الطبل الإفريقي، مدمدماً يشرخ سكون الليل، والناس هناك طيبون "حرقتهم بالحرارات الشموس".
ثم يرحل مع الرياح شمالاً، يبلغ "باريس"، ينعم بجمالها ولياليها "الأورستقراطية"، ثم لا ينسى أبداً أن يغشى جبل "الأولمب" يلتقي "مريا"، ثم يلاحقه حنين وتوق، يفرد جناحه مهاجراً حيث النيل والإنسان، حيث مدائن "من تراب".
لقد هيأت الأقدار ظرفاً حسناً إذ اجتمع في "البقعة" ذلك العهد اثنان من رموز الأدب والثقافة: صلاح أحمد إبراهيم وعلي المك، سدنة معبد الثقافة الشعبية؛ الغناء "الحقيبي"، الرياضة، منابر الشعر ومنافحاته.
نعود لصلاح في أحد "مذهبات" و"مطولات" الشعر الغنائي "الطير المهاجر"، التي هي بين أيدينا، وقد تقاس على ذات المعيار الجمالي برائعة إبراهيم العبادي "سايق الفيات"، وهي الأخرى تحكي مشهداً لطيفاً لرحلة طويلة، وصف فيها العبادي الطبيعة وحراكها، وكائناتها البديعة: أيائل، ظباء، وظباء أُخر.
النيل هو القوس الذي عزف عليه صلاح والعبادي، مع تباين الرسالة.
"الطير المهاجر" هي حنين، شوق وتذكر، ترى هذا في الصورة، في المشهد السوداني الأصيل:
"تنزل هناك وتحيي يا طير باحترام
قول سلام… عيد سلام
على نيل بلادنا سلام
وشباب بلادنا سلام
ونخيل بلادنا
وتعيد سلام"
ثم بعد إزجاء سلام وتحايا يطرح صلاح عقدة النص وذروته:
"تلقا الحبيبة بتشتغل منديل حرير
لحبيب بعيد
تقيف لديها، تبوس يديها
انقل إليها وفايا ليها
وحبي الأكيد"
ومنديل الحرير، رمز لا يوهن، طقس ساطع ينتمي لذلك العهد الوسيم.
يغمرك إحساس عميق، ومحمد وردي يؤدي هذا اللحن المثير للعاطفة، يفهم بإدراكه، بحسه الفني فسيفساء النص ومناخه، فأضحى هو وصديقه صلاح جناحين يحلقان على:
"بيت صغير، من بابو
من شباكو، يلمع ألف نور"
وترى محمد وردي يغني بفرح يصدح، لا يستطيع تجاوز نشوة الإبداع، يرجع اللحن، يرسل أصواتاً كالمزامير من الحنجرة المعتّقة.
0 التعليقات:
أضف تعليقك