نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
كانت نهايات الحرب العالمية الثانية قد رسمت حدًا فاصلاً بين عهدين في التاريخ الإنساني، وظهر عالم جديد، إرهاص، توطئة لحياة قادمة.
كان الفن فيها، بكل أجنته، رائدًا.
كان صوت الغناء الزنجي وموسيقى الجاز الحارة تدفئ ليالي أمريكا الباردة. كانت "مريم ماكيبا" – ماما أفريقيا – تملأ الدنيا غناءً، تراتيل من وحي عذابات شعبها وأمانيه.
كانت القاهرة تنعم وهي ساهرة مع أم كلثوم، وطلال مداح ينفح العطر في الحجاز، وعبد الوهاب الدوكالي يعطر ليل "مراكش"، يشدو بأروع أغاني المغاربة "مرسول الحب". كان عبد الوهاب الدوكالي يدهش آذان أهل "الرياض" أثناء ذلك الحفل الأسطوري، يبهرهم، يسقيهم لوعة، ويرِيهم فنون عظمة غناء أرض "المرابطين".
ما كان السودان نسيًا منسيا. من بين غابات النخيل، من وهج التاريخ، من أرض الحضارات، أشرقت شمس الغناء الرصين، الغناء الذي ينتمي أصالةً لمعادن علا قدرها، فكان محمد عثمان وردي متممًا لرؤى غنائية وصلت إلى رسالة رعاها رواد الشعر والغناء، لكن برؤية جديدة.
نبدأ مع الهرم الكبير، المرحلة البكر التي كانت تأسيسًا وبناءً لصرح جديد. نبدأ بالغناء للناس، الغناء لنداءات القلب، العاطفة، مفردات مستوحاة، مأخوذة من كلام الناس في الأسواق، في الأعياد، أثناء أوقات الحصاد. هي في مجملها أغنيات للقلب، للروح، للحبيب.
"خاف من الله" أغنية مملوءة بمشاعر متباينة، جلها استعطاف، عتاب، شكوى، صحيفة تغص بفيض دافق من التوق والحنين، البكاء، الخنوع والانكسار.
يوظف الشاعر المفردة السودانية، "يرش" عطرًا من ماثور صندل وعبق "كلامنا" الذي يمس القلب مسا حارًا:
"ياما سهرنا ليالي، يا حليلك يا غالي"
"حليلك هذي تبكي من قسا قلبه، قد من صخر، توجع القلب. لا مفردة تحل محل "حليلك" هذه أبدًا. أي قاموس هذا!!"
ثم يستغيث الشاعر بالليل، يناديه، يرفع مظلمة، جعل الليل قاضيًا، يروي تفاصيل دموعه وليله الطويل، يصف غربة وعزلة، يستأنس بمأثورات أقوالنا الفلكلورية: "عايش في مهب الريح".
لا يخلو النص الرشيق من لوم وعتاب وحسرة:
"كنا بنبني جنة... لما خلاص قربنا، رحت هدمت سعادتك، ليه؟ ليه؟"
ثم يذهب الشاعر في حوار مع قلبه، راجيًا النأي عن تباريح الحب وأوجاعه.
في نص الأغنية إشارة لطيفة وذكية إلى "قاضي الغرام"، وهي أمر متوارد في شعر الغناء السوداني، وقد نشير إلى أغنية "أحلام الحب"، الأغنية التي تشبه "خاف من الله"، إذ ورد فيها:
"أنا لي لقاك صادي، لو في الخيال راضي، خصمي هواك يا وديع، مين يا ترى القاضي"
قام بتصميم اللحن برعي محمد دفع الله، وغناها عبد العزيز ذات عهد جميل في عروس الرمال.
هذا اللحن الطروب يحكي، يدون حياة الناس في صفو أوقاتها ولطف مشاعرها.
ومحمد وردي يسمعك لحناً يشجيك، تسترسل فيه الموسيقى، تعبر إلى قاعات قلبك، ثم لا يمضي طويل زمان، فيسمعك ذات اللحن، لكن بأهاب جديد، ثوب موشى، لطيف كهسيس الحرير، غير أنه عميق الأثر، يستقر في قاع الذاكرة.
إنها رؤية الطموح، التطور، بل الطفرة الفنية. وردي الفنان يعي ما يسمو بفنه.
في هذا اللحن الوسيم، ينفعل الجمهور، يتفاعل، يغني، يتناغم مع وردي. إنها روح الغناء الكورالي.
يحمد لمحمد وردي مهارته وحذقه، وهو ينقلنا في مدارج هذا العشق الصوفي المتبتل، تظل أغانيه هدهدة، "مراجيح" من امتاع، إثارة، وتشويق.
0 التعليقات:
أضف تعليقك