ترسين…
الزبير نايل
"ترسين" قرية صغيرة ترقد في حضن جبل مرة؛ تعانق الجبل كل صباح وتكتحل بظلاله كل مساء. تتنفس نداها ووديانها وتعيش على إيقاع طبيعته. مع شروق الشمس يخرج مزارعوها إلى الحقل، وعند الغروب يتسامرون بحكايات أسلافهم.
لكن مساء الأحد الماضي تبدل كل شيء وإلى الأبد. في ليلة ثقيلة تكدست السحب في السماء حتى عجزت عن حمل نفسها فانفجرت مطرًا غزيرًا. انحدرت المياه من قمة الجبل تجرّ معها الصخور الجارفة، واهتزت الأرض من تحتها حتى بدت كأنها تريد أن تخلع عن نفسها القرية بأكملها.
تدحرجت الصخور كوحوش جامحة، ولم تمهل الناس حتى للصراخ؛ ابتلعتهم الانزلاقات الأرضية دفعة واحدة. وفي لحظات صارت «ترسين» قرية بلا أهل؛ مجرد ركام من طين وصخور وماء يخفي في جوفه ألف إنسان.
من بين الركام خرج رجل واحد، مذهولًا زائغَ العينين، وجسده مغطًّى بالطين كأن الأرض لفظته من أعماقها. بخطوات مثقلة مشى فوق ما تبقى من ترسين يبحث عن أي روح، أي صوت، لكن الصمت كان مطبقًا لا يقطعه سوى هدير المطر المتواصل. أطلق تنهيدة طويلة ثم رفع رأسه كأنه يخاطب أشباحًا تحيط به:
«كنتُ واحدًا من ألف، والآن أصبحتُ ألفًا من واحد. كلهم رحلوا إلى دار البقاء. كنتُ أظنّ أن النجاة حياة… فإذا بالنجاة موتٌ آخر.»
لقد نجا وحده، لكن أي نجاة هذه؟ فالناجون عادةً يعودون إلى أهلهم وديارهم؛ أما هو فقد عاد من الموت ولم يجد وجهًا يعرفه ولا صوتًا يألفه، وكأن القدر كتب له النجاة ليحكي الحكاية.
أحسّ، وهو يطأ الركام، كأنه يمشي فوق مقبرة جماعية، ثم انفجر باكيًا:
«الموت أهون من حياة بلا أهل ولا أحباب… ما نفع النجاة إن لم يبقَ فيها أحد يشاركني ذكرياتي؟»
انحنى إلى الأرض، أمسك بحفنة من الطين، وهمس بصوت متحشرج:
«هذا كل ما تبقى من ترسين… وهذا كل ما تبقى مني.»
0 التعليقات:
أضف تعليقك