الزبير نايل
يقولون إن لكل أرض سرّها ولكل دار وليّها، لذلك توطّن عند أهل قريتنا أن سرّهم مودع في (حسان النوراني) الذي لا يشبه أحدًا ولا يستقر في مكان واحد، كأنه طيف أو روحٌ تسري بين الأزقة. كان حافيًا من زخارف الدنيا، عارٍ من أثقالها، لكنه مكلّلٌ بنور داخلي يشع على الآخرين.
ما أن تطأ قدماه مكانًا حتى يتحلق حوله الناس؛ في السوق وعند الدكاكين في الأمسيات. يرقبون حركاته بفضول وينتظرون اللحظة التي يرفع رأسه ويحدّق بعينين نافذتين إلى عوالم غامضة، ثم يتمتم بكلمات مبعثرة يراها البعض خزعبلات ويعدّها آخرون بشارة، والبقية يهابونها، لكنه في النهاية ظل لغزًا وسرًّا محيرًا.
عند طرف القرية تنتصب قبة الشيخ الطيب، بيضاء تشعّ في الليل كمنارة. ما أن يغطي الليل البيوت حتى ينسرب حسان قاصدًا الضريح.. يدخل مطمئنًا ثم يستلقي لينام بجوار القبر كأنه يتدثر بجناح وليّ صالح يفيض عليه حنانًا افتقده عند الأحياء.
لم يفهم أهل القرية سر تعلق النوراني بهذا الضريح، النساء يقلن "هذا مأخوذ بالولاية" والرجال يرددون "هذا من مجاذيب الشيخ". لكنهم متفقون جميعًا أن شيئًا ما يحدث له تحت سقف تلك القبة، لأنهم كانوا يرونه عند عودته في الصباح، أو كما يُهيّأ لهم، أن وجهه مشرق وعيونه صافية لا تشبه عيونهم.
ومع مرور الأيام، لم يعد حسان مجرد طيف متجول، بل أصبح البعض يراه صدىً لأنفاس الشيخ، لذلك كانوا كلما شعروا بالضيق قصدوه، لا بحثًا عن حل، ولكن يحسون بالطمأنينة عندما يردد أمامهم بصوت واثق: "الله قريب… أقرب من وجعك وأقرب من فرحك".
حتى جاء صباح مختلف… قبل أن ينصرف الناس إلى معاشهم، اهتزت القرية بأصداء عويل وضجة وصياح. لقد فقدوا النوراني الذي كان يمثل لهم فواصل يومهم.. بحثوا عنه في كل مكان حتى داخل قبة الشيخ، وجلسوا عند ضفة النهر أسبوعًا، ولكن لم يجدوا أثرًا حتى لوقع أقدامه.. سرت في القرية وحشة عميقة وشعر أهلها أنهم فقدوا بركتهم التي كانت تمنحهم الطمأنينة، والسكينة التي لم يعرفوا لها مصدرًا.
غاب درويش القرية وكأنما ابتلعته الأرض.. اختفى دون أن يعرف وجهته أحد.. كان مثل خيط الضوء الذي طلعت عليه الشمس وتلاشى، وكأنه رجل صالح جاء لبث الطمأنينة بين قومه وأدى رسالته وانزوى.. لم يبقَ من حضوره إلا صدى صوته الذي يهمس في الأزقة والقلوب:
"الله قريب… أقرب من وجعك… وأقرب من فرحك”.
بعدها استوعب أهل القرية سر هؤلاء البسطاء الذين يتحركون بينهم زاهدين في مكاسب الحياة، يحملون في صدورهم نورًا خفيًا، فإذا غابوا تركوا فراغًا عريضًا، لكنهم يصبحون أكثر حضورا.
0 التعليقات:
أضف تعليقك