في عالمٍ تتحكم فيه حسابات القوة والنفوذ، تبرز تجربة دول الساحل الإفريقي — مالي والنيجر وبوركينا فاسو — كدرسٍ صارخ في ازدواجية المعايير التي يمارسها المجتمع الدولي.
فبينما تشهد مناطق أخرى من العالم عقوبات فورية وتدخلاً سريعًا لمجلس الأمن عند أي مساسٍ بمصالح القوى الكبرى، تمرّر هذه الدول قراراتها الجريئة بطرد الجيوش والسفراء دون أن تتحرك الآلة الدولية ذاتها، وكأن الأمر لا يعنيها.
لقد شكّلت هذه الدول تحالفًا استراتيجيًا عُرف باسم "تحالف دول الساحل" في سبتمبر 2023، ككتلةٍ دفاعيةٍ مشتركةٍ ردًا على التهديدات العسكرية المحتملة. وتطور هذا التحالف إلى كونفدرالية رسمية في يوليو 2024، بهدف إنشاء سوقٍ مشتركة، وتنفيذ اتحادٍ نقدي، والسماح بحرية تنقل الأشخاص.
وفي خطوةٍ جريئة، أنهت هذه الدول اتفاقياتها الدفاعية مع فرنسا والولايات المتحدة، وطالبت بسحب قواتهما من أراضيها. كما أدى هذا التوجه الجديد إلى استبدال القوات الغربية بقوات مرتزقة روس، في تحولٍ استراتيجيٍ واضح في موازين التحالفات.
وعلى الرغم من هذه القرارات الجريئة، كان ردّ فعل المجتمع الدولي باهتًا بشكلٍ لافت؛ فلم تُفرض عقوباتٌ اقتصاديةٌ جماعية، أو تُجمّد الأموال في البنوك الدولية بالشكل المتوقع، على عكس ما يحدث في حالاتٍ مشابهةٍ أخرى.
لم يشهد مجلس الأمن اجتماعاتٍ عاجلة، ولم يصدر قراراتٍ تُدين هذه التطورات رغم أهميتها الإستراتيجية، كما لم تظهر "دولٌ رباعية" أو وساطاتٌ دوليةٌ مكثفة كما هو معهودٌ في أزماتٍ أخرى تمس مصالح الغرب.
يكشف هذا الصمت عن حقيقةٍ استراتيجيةٍ جديدة: فالمجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يبدو عاجزًا أمام قرارات السيادة الوطنية عندما تُتخذ بإرادةٍ حقيقيةٍ وبدعمٍ شعبيٍ داخلي.
لقد أدركت هذه الدول أن القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم، فتعاملت معه بالمنطق ذاته.
النتيجة الاقتصادية لهذه السياسة بدت إيجابية؛ إذ تشير التقديرات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 بنسبةٍ ملحوظة في هذه الدول.
تجربة دول الساحل تثبت أن القوة والوحدة هما السلاح الأقوى في مواجهة إملاءات المجتمع الدولي، وأن الاستقلال الحقيقي يبدأ من القدرة على اتخاذ القرار دون وصاية.
لقد فضّلت هذه الدول البحث عن شراكاتٍ جديدة تتماشى مع مصالحها الوطنية، بعيدًا عن الهيمنة التقليدية للقوى الغربية.
إنها رسالةٌ واضحة للدول التي ما زالت تنتظر "عونًا خارجيًا" من المجتمع الدولي الظالم، بأن طريق التحرر الحقيقي يبدأ من الداخل، كما قال وزير الخارجية محيي الدين سالم:
"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والله العظيم، وإن كنتم تنتظرون عونًا خارجيًا من هذا المجتمع الدولي الظالم، فعلى الدنيا السلام، ولن تجدوا وطنًا."
عندما تُقرن الإرادة بالتصميم، لا تكون تجربة مالي والنيجر وبوركينا فاسو مجرد خروجٍ على السياسات التقليدية، بل إعلانًا لميلاد منطقٍ جديد في العلاقات الدولية، حيث لم تعد الهيمنة الغربية قدرًا محتومًا، ولم تعد القرارات الدولية تُطبّق إلا على الضعفاء.
إنها دعوةٌ لجميع الأمم التي تبحث عن كرامتها وسيادتها أن تتعلم من هذا الدرس؛
فالعالم لا يرحم الضعفاء،
ولا يحترم إلا الأقوياء.
0 التعليقات:
أضف تعليقك