الجمعة 21/نوفمبر/2025

العودة إلى الدندر (1)

العودة إلى الدندر (1)

 

 

 قبل عشرين عاما تقريبا أنهيت غربتي باختياري رغم محفّزاتها ويمّمتُ وجهي شطر بلادي مستثمرا، واستأجرت مع زميل لي مشروعا زراعيا كاملا شرق مدينة الدندر بحوالي 100 كلم أو تزيد.

الخريف ذلك العام كان مُبشرا، فما إن جهّزنا "الكمبو" وأرضنا الزراعية، وبذرنا "التيراب" مع بداية عِينة "الضراع" حتى توالى هطول الأمطار الغزيرة، مما جعلنا بعض الأوقات نُصلي على "عناقريبنا" داخل "قطيتنا".

الحياة في "كمبو" ناءٍ لا يستطيعها إلا من عجم عود الحياة وعجمته. كان اعتمادنا الكلي في غذائنا على العصيدة والعدس والسمك المجفف "الكجيك". وكان علينا جلب الماء النقي وطحن عيشنا "العكر" بالتراكتور من قرية تبعد عنا حوالي ثلاثين كلم! وأن نلزم "عناقريبنا" و"ناموسياتنا" عقب صلاة المغرب مباشرة، اتقاء البعوض وهوام الأرض، لأن الثعابين والعقارب، لتنجو من الغرق، تقصد المناطق شبه المرتفعة، ومنها الكمبو الذي قبع على مرتفع صنعه من جاء قبلنا، وكان ملاذا لكثير منها. "يجب أن نأكل البصل النيء كثيرا خوف الكلازار"، عبارة كان يرددها علي البرناوي!

بعد أن "كدَّبنا" العيش والسمسم مرتين، واستوى زرعنا على سوقه، وأُعجبنا به أيما إعجاب، خاصة بعد أن "رصَّ" السمسم و"لبّن" العيش، ولبست الأرض حُلّة خضراء لم أر أجمل منها في حياتي، وتسلّقت "العدار" والأشجار زهور طبيعية فوّاحة تسرُّ الناظرين، قررتُ العودة إلى الدندر ومنها إلى الخرطوم، استعدادًا للحصاد.

 تحرّك بنا التراكتور "الماسي" يجرُّ مقطورته بُعيد الظهر، شخصي الضعيف، وعلي البرناوي سائق التراكتور والمساعد موسى. كنا قاصدين قرية "شلعي" التي توجد فيها بئر المياه العذبة والطاحونة، ففيها يمكن أن أجد "آلة" - كما يقول أهل الصعيد - تقلّني إلى الدندر. كان التراكتور المترنّح ببطء في الوحل والطين وزخات المطر يغوص في الخضرة حتى "عادمه"، وبعيد العصر أدهشني منظر شجرة ضخمة عارية من الأوراق رغم الخضرة الداكنة حولها، جثمت على أعلى فرع يابس فيها "بومة" ضخمة غريبة العينين. ورغم أنني لا أؤمن بالتطيّر فقد "بنشر" لستك التراكتور الخلفي عند الغروب في وادٍ واسع تكسوه الأشجار وتظلله السحب الداكنة. صلينا المغرب على الرمال المُبتلة، ثم "بنشرنا" اللستك بصعوبة، وحمل علي البرناوي الأنبوبة "المشروطة" على كتفه وقصد "شلعي" رافضا أن يحمل معه "كشافي"، لأننا "ربما نحتاج إليه"، حسب قوله. وحِرت، كيف سيعرف طريقه في هذا الظلام، ونحن ماذا سنفعل إذا هطلت الأمطار بغزارة وداهمنا سيل؟

 حاولنا النوم في المقطورة على "شوالات" العيش المُعدّة للطحن، تُبللنا زخات مطر خفيفة، وتنهشنا "اللاريتا" التي زحفت من الشوالات، وتعلونا جحافل البعوض التي لم تصدّق أنها وجدت فريسة في تلك الأدغال. لم ننم، إنما كانت ليلتنا كليلة الملدوغ، نتحدّثُ قليلا ثم نُنصت إلى طنين البعوض ونقيق الضفادع وأصوات طيور غريبة، وأدهشني أن مرّت علينا جماعة راجلة من "الجنقو" الجنوبيين بعيد منتصف الليل، وما إن فاجأهم ضوء كشافي حتى نطقوا الشهادة جماعة! سألتهم عدة أسئلة وعلمت منهم أنهم "جنقو" يبحثون عن "مشاريع" ليعملوا فيها، وأنهم جاؤوا من "ملكال" مشيا على الأقدام! مثل هؤلاء "الجنقو" كثيرون في تلك الأصقاع، خاصة الجنوبيين والإثيوبيين. سار "الجنقو" في طريقهم وبتنا نحن في انتظار علي البرناوي الذي عاد قرب الفجر حاملا معه أنبوبة اللستك "المرقوعة" التي وضعناها في مكانها مستخدمين الشاكوش و"الليبر"، ثم شرعنا نملؤها هواءً بمنفاخ يدوي!

 

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار