كيف حوّلت الألعاب الشعبية السودانية "الرعب" إلى وسيلةٍ للعلاج والتمكين؟
الخوف، ذلك الشعور البدائي الذي يلازم الإنسان منذ ولادته، ليس شرًّا محضًا كما يعتقد الكثيرون. فبالنسبة لعلماء النفس، للخوف وجهان:
أحدهما طبيعي وصحي، وهو ذلك الدافع الخفي الذي يدفعنا للتخطيط والتجويد في أعمالنا، بحثًا عن النجاح وتفاديًا للفشل.
أما الوجه الآخر، فهو الخوف المرضي (الفوبيا)، الذي يتحول إلى قيدٍ ثقيلٍ يكبّل خطى الإنسان، ويحصره في دائرةٍ من التردد والعجز، مانعًا إياه من استشراف المستقبل بثقة.
العلاج بين الماضي والحاضر
في عيادات العلاج النفسي الحديثة، تتنوع أساليب مواجهة الخوف المرضي، بدءًا من العلاج السلوكي المعرفي وصولًا إلى الأدوية المضادة للقلق.
ولكن، ماذا لو كانت بعض المجتمعات قد طوّرت أساليبها "التراثية" لمعالجة هذا الداء بالاعتماد على ما تمتلكه من موروثٍ ثقافي؟
هنا تبرز التجربة السودانية الفريدة، حيث وُظِّفت الألعاب الشعبية، وخصوصًا "اللعب الليلي"، كأداةٍ علاجيةٍ مبكرة.
"اللعب الليلي".. مواجهة الجماعة للظلام
في القرى والمناطق السودانية التقليدية، لم يكن "اللعب الليلي" مجرد وسيلةٍ لتسلية الأطفال، بل كان مدرسةً حقيقيةً لمواجهة المخاوف.
يجتمع الأطفال في ساحاتٍ مفتوحةٍ مع حلول الظلام، بعيدًا عن أضواء الكهرباء، حيث لا يُرى إلا نور القمر والنجوم.
في هذا الفضاء، كانت تُقام الألعاب الجماعية التي تخلو من العنف، لكنها غنية بالتحدي.
ألعاب مثل "شليل" أو "سكوكية" كانت تدفع المشارك للجرأة على التحرك في العتمة، والاستماع بتركيزٍ للأصوات، والتفاعل مع الآخرين في بيئةٍ غير مألوفة.
لم يكن الهدف إخافة الطفل، بل تدريبه تدريجيًا على التعايش مع مصدر الخوف – وهو الظلام والوحدة في هذه الحالة – ضمن إطارٍ جماعيٍّ آمن.
كانت المجموعة تشكل "شبكة أمان" نفسية، مما يسمح للفرد باختبار الخوف والسيطرة عليه في الوقت نفسه.
من التراث إلى علم النفس.. حكمةٌ تتجدد
يشرح هذا النهج ما يؤكده علم النفس الحديث، ألا وهو "العلاج بالتعرّض"؛ فمواجهة المخاوف في بيئةٍ مسيطرٍ عليها هي الأساس في علاج القلق والرهاب.
وهكذا، كانت هذه الألعاب تمارس شكلًا بدائيًا ومبدعًا من هذا المبدأ.
لقد كانت تُعلّم الأطفال أن الخوف ليس عدوًّا يجب الهروب منه، بل تحديًا يمكن فهمه وإدارته.
كما كانت تبني الشخصية وتعزز الثقة بالنفس، والشجاعة، وروح التعاون.
خلاصة:
تجربة الألعاب الشعبية السودانية تقدم لنا رسالةً عميقة:
الحلول للمشكلات الإنسانية – كالخوف – قد تكون كامنة في تراثنا وثقافتنا.
إنها دعوة لإعادة اكتشاف هذا الموروث الغني ودراسته علميًا، ليس من أجل الحنين إلى الماضي، بل لاستلهام أساليب علاجية بسيطة وفعالة تصلح لعلاج أطفالنا، وربما حتى كبارنا، من مخاوف عصرنا الحديث المعقدة.
ففي اللعبة، قد نجد الدواء.
0 التعليقات:
أضف تعليقك