عوامرتُنا بالقسم الشمالي الغربي من مشروع الجزيرة، هذا السقف الأخضر العريض والممتد كجناح غيمةٍ ظليلةٍ مترامية، يتقاطر سيلُ رموزِه بركائبهم في تزاورٍ أسريٍّ كبير، يجدون فيه ملاذًا للكرم ومرفأً للأمان.
هذه القرى ليست مجرد طُرقاتٍ ومنشآتٍ وتطاولٍ في البُنيان، بل أعمدةٌ من شهامةٍ متوارثة، أسَّسَ لمدّها عُمَدٌ وأعيانُ قبائلٍ جعلوها نسيجًا من مروءةٍ سكنت دماء القبيلة حتى صارت عرفًا يخلّد تآلفَها في السطور والصدور.
قادني لهذه المقدمة المتواضعة تكاتفُ أهلنا العوامرة إبان فترة ما قبل تحرير ولاية الجزيرة، وهيمنة الأوباش على الإقليم عمومًا ومنطقتِنا على وجه الخصوص؛ إذ نجد أن أهلنا العوامرة يسند بعضُهم بعضًا في تماسكٍ ورباطٍ قوي هزم إرادةَ من تأبّط بهم شرًّا.
كنا، كلُّنا فخرًا وإعزازًا وقتها، ونحن نرى شبابَنا بهذه الشجاعة والعزيمة التي لا تُقهر، وهذا الحماس المنقطع النظير، وفي مشاهدَ نلحظها في كل قريةٍ من قراهم، وكأننا أمام لوحةٍ من الزمن الجميل وقد عادت حيّة، تسير على حوافّ متاريس ومزارع آبائهم، بحميمية التواصل وتفقّد الناس لبعضهم دون عناوينَ أسريةٍ أو مناطقية.
كانوا جميعُهم دون استثناء: أفطس، واللعوته، والربع، والكتير، وبقية منظومة قرى العوامرة الجميلة والمتفرّدة اسمًا وأصالةً.
وكنا بهم ومعهم، ولا زلنا بنبض إحساسِنا وكلِّ ما يستلزِم.
كان الكلُّ سلامَ التلاقي والترحاب والوجوهِ المشرقة والطمأنينة، فواللهِ لم يزرْ أحدٌ تلك الديار إلا ووجدها فاتحةً بكرم عوامرةٍ أصيلٍ، لم يُخذَل فيه ضيفٌ، ولم يُرَدَّ طارقٌ.
ولِمَ لا؟
وكبارُنا أعيانُ البلد كانوا في عهدهم رموزًا لمعنى الضيافة حتى بلغت ذروتَها، وأضحَوا عنوانًا للكرم، تتردد ذكراهم في المجالس، لأنهم أصحابُ مجدٍ، والمجدُ لا يُكتب بالقصائد ولا يُشيَّد بالبطولات فحسب، بل يُبنى كذلك على موائدَ عامرةٍ، في بيوتٍ مفتوحة، وفي قلوبٍ كبيرةٍ تتسع للناس جميعًا.
نعم، استطاع هؤلاء الآباء تخليدَ أنفسِهم لا بسيوفٍ وكنوزٍ، وهم أهلُ عزٍّ وفراسةٍ مشهودٌ لهم بذلك، بل بقدرتهم النادرة على جمع الناس وإكرامهم وحسن ضيافتهم، حتى صاروا أسماءً حيّةً في ذاكرة المنطقة والجزيرة عمومًا، وشاهدًا على أن الكرم أرفعُ وجوه القيادة، وأصدقُ دلائل العظمة.
رحم الله والدي العمدة خوجلي، وكلَّ عُمَدٍ ومشايخَ وأعيانِ العوامرة، فقد تجلّى في زمانهم معنى الكرم بأبهى صوره: عطاءٌ لا ينضب، وصوتٌ يصدح في الليل:
"هلمّوا يا أحبابُ لديار الكرم والترحاب"
فيستجيب له الغريب قبل القريب، وكل من جلس في ضيافتهم وهو يحمل في داخله يقينًا بأن أهلَنا العوامرة — عمومًا — بألف خير، ومهما قست ظروفُهم فهي تُنبت قلوبًا كالغيث، أينما وقع عمّ نفعُه.
0 التعليقات:
أضف تعليقك