نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
كان شرق بلادي كريمًا وعادلًا، كل زمان وآخر، يلقي أزهاره من فيض الغناء الشائق الرصين على آذاننا، يحملنا بأجنحة خفاف، يطوف بنا، يلهينا عن عذابات الحياة وجراحها.
محمد عثمان كجراي، أحمد إبراهيم الطاش، والنغم اللدن الطروب "حبيبي ناوي الرحيل"، عبدالوهاب هلاوي، الحلنقي، ثم وقبل هذا "الكرزاي"، الساحر الكبير الذي علمهم أسرار الغناء، حسين بازرعة… ومن حبات هذا العقد النضيد، من بادية "هيا"، ليلها الطويل، سمائها الرحيب، وصوت ناي وربابة يبكي لوعة وأسًى، و"فنجان قهوة"، في هذه الأمكنة فتحت أبواب الشعر مشرعة، فكان أبو أمنه حامد، ذاك الذي ملأ الأثير وشغل الناس.
كان يغني للناس جميعهم، يمحو الطبقات، يزيل الفروق الفردية، ويضعهم تحت دفء التذوق البهيج. غنى للحب، للوطن، للعروبة، ورسائل اجتماعية: "بنحب من بلدنا ما برا البلد"، أغنية تقرأ في ظرف زمانها، ولك أن تتأمل!
أبو أمنه حامد سيرة إنسان، مبدع مطبوع، لا يغيب حس الفكاهة عن حياته، فيه شيء من سخرية محببة. ولما سمع الجابري يصدح بـ "حد يشعر بالسعادة يمشي يختار البعاد"، قال الراوي إنه انتشى، اعتراه طرب، ولمعت عيناه، وقع أبو أمنه الرقيق بين عذوبة الشعر ونغم الجابري، الذي ينقلك حيث "لا أمنيات تخيب ولا كائنات تمر".
حين انقضت لحظات التداعي العاطفي، عاد أبو أمنه لسخريته: "ناس تكتب حد يشعر بالسعادة"، و"جايي تعمل إيه معانا"، وهي أغنيته التي وضعها الجابري، قارورة عطر تضوع كل ليل، كل أصيل.
هذا ما رأى أبو أمنه في أغنيته العذبة "ما نسيناك"، غير أن المتلقي لا يرى ما رآه الشاعر. الأغنية مملوءة وجدًا وصبابة، تهفو بأجنحة من رقائق لطائف التعبير، الاستهلال لا ينبئ عن روح النص الذي يتدفق عذوبة، يريك الشاعر رافعًا كفيه راجيًا، مثقلًا بالضراعات:
"ما كفاهو العذاب اللي هو فيه
ليه تزيد الآمو أكتر"،
ثم يلقي الشاعر شيئًا من لوم وعتاب وبعض حسرة:
"ما سقيناك أحلى ما في عمرنا
من عواطف، ما لقيناك".
حياة أبو أمنه سيرة يصعب حصرها، هي بستان يعج بنواضر الزهر، وفيها بعض مشقات الحياة. الشاعر يستلهم إنتاجه الإبداعي من تجربة طويلة في التجوال بين دور الحكومة، ردهات الخارجية والداخلية، الصحافة والإعلام، يعيش في رحاب كل هذه الأجواء المتنافرة، لا توافق روحه الوثابة، يراها أقفاصا مذهبة، ينكرها، يفلت من هذا القيد، فيغني، يحيل أوقاتنا، يغمرها بفرح لا يوصف، هو أبو أمنه "أدروب النبيل".
وبين مشقات الحياة وشقائها، وقفرها، تطل زهرات الغناء التي طافت على أرواحنا فأسكرتها: "سال من شعرها الذهب".
الصورة أحد مكونات المنتج الفني في كل الفنون، شعرًا ونثرًا، ومنحوتات ومنمنمات وزخارف. الشعر العربي حفل بلوحات زاهية أضفت على النص بريقًا وازدهارًا، كما في أوروبا عهد النهضة والتنوير، حيث أشرق الفكر الجمالي بأطياف من فنون النحت والزخرفة والرسم والتلوين.
في السودان، كان أبو أمنه حامد يقيم مرسما في خياله الخصيب، يرسم لوحة بارعة، يجمع الألوان من كل روض وقفر، جعل قلبه "دواة"، ثم كانت:
"النسيمات والخصل في عناق
وفي غزل".
هذا نص شعري شارد، ربما استعراض أو تحليل معانيه ومراميه يفسده، غير أنه جهد مقل. الأغنية لوحة تمور بالحياة، انظر للنسيمات والخصل، وكيف غدت مستغرقة في هيام، ثم يضع إطارا زمنيا هو الأصيل، يستعين بحمرته مستكملًا جمال اللوحة، ثم يصور مشهدًا رائق الحسن:
"رقص الورد والزهر
مهرجانًا على النهر
سال في الشط وانهمر
عطرها الحلو انسرب"،
جعل كل هذا المشهد عرشًا تجلس عليه "المتجردة"، غصن بان، أو كما أورد الشاعر:
"أي غصن إذا انثنى
فيه تحتشد الدنا
والثريات والسنا"،
ثم أدرك الشاعر عظيم وجد وشوق ضار، فاشتعلت النار: "وقعدنا على اللهب".
ولنا لقاء… هل تنتظرون؟
0 التعليقات:
أضف تعليقك