الجمعة 21/نوفمبر/2025

"شليل".. لعبة الطفولة التي تحوّل خوف الظلام إلى إرادة جماعية

"شليل".. لعبة الطفولة التي تحوّل خوف الظلام إلى إرادة جماعية

...

في زحمة الألعاب الإلكترونية وصراعات الواقع الافتراضي، تطلّ علينا ذاكرة التراث بلعبة بسيطة وعميقة تختزل حكمة تربوية عابرة للأجيال. إنها لعبة "شليل"، تلك اللعبة الشعبية التي لا تكتفي بالترفيه، بل تُشكِّل عالماً مصغراً يُعيد صياغة نفسية الطفل، محوّلةً رهبته من العتمة إلى شغف بالبحث والعمل الجماعي.

البعد الأول: تحويل طاقة الخوف إلى إرادة بحث

تبدأ اللعبة بحجب فكرة الخوف من الظلام، ليس بإنكاره، بل باحتضانه وتحويله إلى أداة منتجة. فالطفل الذي قد يرتعد من فكرة التواجد في "جنح الظلام" يجد نفسه فجأة في قلب مهمة نبيلة: البحث عن "العظمة" التي أُلقيت في "جوف العتمة". هنا، لم يعد الظلام مصدراً للرعب، بل أصبح مسرحاً للمغامرة. تتحول الطاقة العصبية الناتجة عن الخوف إلى طاقة حركية وذهنية مركَّزة على تحقيق الهدف. ينتقل الطفل من كائنٍ سلبيٍ مكتوف الأيدي أمام وساوس الظلام إلى عنصرٍ فاعل، قائد أو مساعد، يمتلك إرادة ويبذل جهداً. إنها عملية "غسل نفسي" رائعة، حيث يُستبدل هاجس المجهول بشغف الاكتشاف.

البعد الثاني: ترسيخ قيمة الجماعة والتلاحم الاجتماعي

قلب لعبة "شليل" النابض هو مفهوم الجماعة. فالبحث عن العظمة ليس عملاً فردياً، بل هو جهد تعاوني تتكاتف فيه الأيادي وتتحد فيه الأصوات. الأغاني الشعبية التراثية التي ترافق اللعبة ليست مجرد إيقاعات للمتعة، بل هي شريطٌ ناظم يربط الأفراد بروابط وجدانية. هذه الأغاني، المستمدة من عمق التراث، تُشعر الطفل بالانتماء إلى تاريخ وثقافة جماعية، فيتعلم أن صوته الفردي جزءٌ من لحنٍ جماعي أكبر. ومن خلال التفاعل مع الآخرين، يدرك أن نجاح الفرد (في العثور على العظمة) هو نجاح للجميع، وأن دور كل فرد، مهما بدا صغيراً، حيوي لإكمال الصورة.

البعد الثالث: توجيه الطاقات نحو العمل المفيد والإنجاز

لا توجد طاقة أعظم من طاقة مجموعة أطفال متحمسين، و"شليل" تقدم نموذجاً رائعاً لتسخير هذه الطاقة الهائلة نحو هدف مشترك مفيد. فبدلاً من تفريغ هذه الطاقات في شجار أو عشوائية، تُوجّهها اللعبة نحو "إنجاز". يصبح الهدف الملموس (العظمة) محوراً يجمع الطاقات ويُنظّمها. ويتعلم الأطفال من خلال الممارسة أن العمل الجماعي المنظم هو أقصر الطرق لتحقيق الأهداف، وأن التآزر يولّد قوة أكبر من مجموع القوى الفردية. وهذه القيمة لا تُقدَّر بثمن في بناء شخصيات قادرة على العمل ضمن فريق، وتحمل المسؤولية الجماعية في المستقبل.

إن لعبة "شليل" ليست مجرد تسلية عابرة، بل هي مدرسة حيّة تتوارثها الأجيال. إنها تعيد تأهيل عقل الطفل وقلبه، فتحرّره من سجن الخوف الشخصي لتطلقه إلى فضاء العمل الجماعي. ففي عتمة الساحة، وبضوء القمر الخافت، لا يجد الأطفال مجرد عظمة، بل يجدون أنفسهم، ويجدون قيمة الآخرين، ويتعلمون أسمى الدروس: أن الظلام يمكن أن يضيء دروب التعاون، وأن الخوف يمكن أن يذوب في بوتقة الهدف المشترك. إنها فلسفة تربوية متكاملة، تقدمها لنا تراثاتنا الشعبية بلغة بسيطة، لكن آثارها تظل منقوشة في الشخصية طوال العمر.

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار