نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
كانت المدينة القديمة شريانًا يعبر فيه الناس والأرزاق إلى بلدات قاصية.
هي "بربر"، تحج إليها القوافل، يجتمعون في دورها والفناءات الرحبة، ثم إذا حل المساء سكنت أصوات الباعة، التفت الناس إلى أنس وترنم وغناء بألسنة دارجة، وبعض عجمة، غير أن لها وقعًا في روح ذلك الصبي الأبْنوسي.
كان عبدالعزيز يسعد بكل هذه الأنْساق الغنائية، يخزنها في ذاكرته، ثم إذا أطل الفجر حمل لوحته وانتظم في خلوة الشيخ.
ثم ذهب به شغف عنيد، طاغٍ، إلى "كبوشية"، موئل الغناء الرصين. كان محمد ود الفكي قيثارة تشجي الخلي، ثم كان عبدالله الماحي وصوته المنغم البديع. كان الصبي يتذوق الفيض الغنائي المبهر يهزه هزًّا، يمس نداءات خفية تفصح عن توق واشتهاء للترنم، الإنشاد، شيء ما يحسه، ثم يبدأ همس الغناء، نرجسة طفلة، ثم تطل شرفة من ربيع الغناء السوداني الأصيل.
ما نسي ذاك الموال الذي أشقاه وأسعده، وظل ليله ساهرًا، مسهَدًا يستعيد عذوبة الغناء الجميل، فكأنه يضع قطعة حلوى في فمه:
"من عشوقا قر ما نكر
يا عزول مغرم مو سكر
حي انا المرضان شن اسو"
قال الراوي: إن عبدالعزيز سمع صوت غناء ما سمع مثله من قبل، قفز صديقنا إلى سلم القطار، أذهله الغناء، نسي كل شيء، حتى بلغت الرحلة الخرطوم، ثم قرر أن لا عودة، حملته الأقدار عفوًا لِما كان مقدرًا.
بدأ عبدالعزيز يغني في جلسات الأنْس والإخوانيات، كانت حنجرته العظيمة تلون الكلمات، تلبسها جمالًا وفتنة، ثم يتدفق اللحن نقيًا فاتنًا، يلمس أوتار القلب.
ثم وضع عبدالعزيز اسمه في سجل إذاعة أم درمان. كل شيء كان يمضي عفوًا، بلا ترتيب، هكذا شاءت الأقدار لذلك الإنسان الضخم الذي تزين وجهه ابتسامة طفل، وقلب يخفق بأحاسيس نبيلة.
قيل إن الاستوديو كان معدًّا لتسجيل أغنية رقيقة المعاني، لطيفة الإيقاع:
"على النجيلة جلسنا"، كتبها عبد الرحمن الريح، وعلك ترى روح الشاعر في رومانسيته المعهودة وحديثه عن مسرح الطبيعة، النجيلة، والأنس، والزهر.
أوكل لعبدالعزيز أداء الأغنية بعد اعتذار الطرف الأول (المؤدي)، فأوفى عبدالعزيز الأغنية تمامًا، أخرجها في إهاب جليل، والصوت المتمكن، الهادئ، ينساب كرقراق ماء "ينصب في قرار النفوس":
"حبيبنا كان في السهرة
لطيف ظريف كالزهرة
عجيب تشوف في عيونه
صور المحاسن ظاهرة"
نص رومانسي أدركه عبدالعزيز بتنغيم يحملك إلى لحظات تشويق وامتاع، تبعث كوامن صور كثيرة ظننتها نائمة، ثم تنتقل عدوى الانتشاء إلى المجموعة، يتغنون في نسق كورالي.
ثم كان اللقاء الأول، كانت "عروس الرمال" تزدهي بنعيمها وجمالها وثرائها الفني العتيق، فيها التبلدي وتاريخ من الأمجاد، فيها محمد عوض الكريم القرشي، وبيته محجًّا لأهل الفنون. وكم من دراري من قطاف الغناء أضاءت أرواحنا، نثرت عطراً يفوح في سهوبنا وحواضرنا.
في عروس الرمال التقى الكبيران، برعي محمد دفع الله وعبدالعزيز، وكانت "أحلام الحب" كتبها الملهم صاحب التصانيف والحواشي الرقيقة، الشاعر "الأمي". كانت عروس الرمال مسرحًا ملهماً لهذا المنتج الراقي، استوعب برعي النص، تحسس مواضع الجمال والفتون، وما فيه من تراكيب سهلة لكنها عميقة الأثر، وصمم اللحن الذي تجانس مع الفكرة وروح النص، وكان العود يدندن يستكشف، ينقب عن تجسيد لمناخ الأغنية وما عمرت به من وجدانيات.
"زرعوك في قلبي يا من كساني شجون
ورووك من دمي يا اللادن العرجون"
الاستهلال مباشر: "زرعوك" ثم "رووك من دمي"، قد تلاحظ العلاقة الوثيقة بين اللفظين، وضعها الشاعر بذكاء إشارة لحب راسخ، روي زرعه من دم حار، "اللادن العرجون" من صيغ البلاغة وهي من صفات النخل وتثنيه.
هذه الأغنية تغنى بها كل الناس، كل أطيافهم، كل الأجيال في تعاقبها، استهوت كل المغنين، وظلت شمعة تمردت على ناموس الطبيعة، صامدة لا تطفئها رياح.
هذا هو أبو داوود المادح، المنشد، المغني. التقينا به زمن بهي مع برعي، عرفنا الموسيقى المشرقية، ثنائيات مدهشة، المدرسة "الشيرازية" الفارسية وملاحها حافظ الشيرازي، ومدرسة "الرحبانية" في الشام، ومدارس "السنباطي"، و"الطويل"، وسيد درويش في مصر، ثم أكاديمية برعي وعبد الرحمن الريح وآخرون في أرض الحضارات.
0 التعليقات:
أضف تعليقك