كان خليل فرح فتحًا جديدًا في مسار الأغنية السودانية؛ فـ(عزة)، هذا الموال الوطني المجيد، تحوّل إلى شعار وحداء ونداء للثورة… للنور القادم من الظلمات والعتمة.
صنع خليل اللحن المؤثر الذي يتفجر آهاته، يرددها بتنغيم عجيب، وصوته المديد يلهب الإحساس.
دار بعض النقاش بين المثقفين السودانيين حول النشيد الوطني، وطرحوا مقارنة بين (جند الله) الذي تم اختياره ليعبّر عن معنى وقيمة ومضمون نشيد العلم، وبين رائعة خليل فرح (عزة في هواك).
انحاز بعضهم للصاغ محمود أبو بكر و(صه يا كنار)، لكن إذا نظرنا بعدل، وقياسًا على طبيعة النشيد كما هو مألوف، فإن (عزة في هواك) هي الأحق.
عندما تستمع إلى خليل وآهاته، تنتابك ثورة إحساس وطني هائل، ينقلك إلى الوطن وراياته، يصعد بك إلى فضاءات شاهقة، ثم يدنيك حتى أديم الأرض، وأنت مأخوذ بهذا اللحن المجدول من أحلام الوطن وأمانيه.
رغم قِصر أيامه في هذه الحياة، رسم خليل فرح اتجاهًا — بل اتجاهات جديدة — أحدثت طفرة مذهلة.
تأمل في سيرته العبقرية؛ لقد طرق باب الغناء أوسع ما يكون، تغنّى بالفصيح، وأنشد بصوته المديد المترع بالأسى والوجد رائعة الأمير الأموي الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
أَعَبدَةٌ ما يَنسَى مودَّتك القلبُ
ولا هو يُسْلِيه بلاءٌ ولا كربُ
ولا قولُ واشٍ كاشحٍ ذي عداوةٍ
ولا بُعدُ دارٍ إن نَأيتِ ولا قربُ
تصغي للإنشاد الساحر، فينقلك إلى حضرة الطف، إلى شعراء العباسيين، إلى (الشريف الرضي)... أي عبقرية هذه؟
أي سحر أذابَهُ ذاك الشاب الأسمر النحيل؟ سقى به براعم التذوق، وأي ريحٍ طيبة حملت هذا الصوت الفاتن؟
هو أحد رسائل الخلق والابتكار البهية المبهرة التي حملتها أجواء الجزر النائية، بأغانيها، ووقع طنبورها، و"الدليب" الذي يضعك بين قطبين متنافرين: ومضة حزن، أو خيط فرح ممهور برقص حسناء تتثنى، وكأنها أميرة في بلاط كوش القديمة.
ولا نغادر خليل فرح، إذ حان الوقوف عند فن الإنشاد وتأثيره على مجمل الغناء الوتري.
ولعلنا نرى تجليات هذا عند حسن عطية (أبو علي).
هل استمعت لرائعة المحجوب وهو يغنيها؟ إنها (فيردلونا). إن لم تسمعها، فافعل الآن… ثم حدّثني عن سحر الإنشاد، وجنونه، وتأوهاته.
ثم إنك لا تستطيع تجاوز (رملتنا بيضاء)، ذاك هو سجع الحمام.
نعود كرة أخرى — بل أكثر — إلى خليل أفندي فرح، نكون شهودًا على جلسة يعمّرها شيخ شعراء السودان محمد سعيد العباسي، وهو يلقّن الحضور من المبدعين أصول الإنشاد.
وقد نصحب خليل في زيارته إلى (رفاعة أب سن):
نادي عنان واتباعه
قفّل حوانيت الباعة
سنفعل، سيدي… سأحدثكم عن "عنان" هذه.
أراكم مع الخليل، عاجلًا.
0 التعليقات