لا يزال كثيرون يحتفظون بأطياف الأمكنة التي غادروها مُجبرين… يغشاهم عبق الديار كأنه امتزج بأرواحهم. تتراءى لهم ظلال الجيران، وأسماء المحال، وتلفح أنوفهم روائح الشوارع، وفي سمعهم ضجيج المدارس والأسواق.
العودة إلى الديار، في مخيلتهم، تعني ملامسة الذكريات واحتضان الأمكنة بالنبض القديم ذاته… لكنها قد تكون عودةً مغايرة، موشومة بالخذلان والوجع. والآن وقد بدأت سكان الخرطوم بالعودة إلى مدينتهم لتفقّد ممتلكاتهم أو ما تبقى منها، عليهم أن يهيؤوا أنفسهم لمشاهد حتما ستوجعهم.
سيجدوا أن هناك أوباشا قد مروا من هنا، عربدوا في المنازل والمحال، وقلبوا الأشياء رأسًا على عقب، حتى صار الركن الأليف غريبا، والباب المألوف موصدا بوحشة. سيجد العائد الغبار وقد غطّى آثار أقدامه القديمة…الحيطان يكللها حزن داكن…الزرع عطِش، والأشجار متهالكة وانحنت أغصانها حنينًا للعصافير التي هربت، بعد أن خنقها دخان المعارك.
سيكتشف أن بعض الجيران قد ابتلعتهم المنافي، وبعضهم مضوا دون وداع، فيما تقف البيوت صامتة كأنها تهمس:
“يا طارق الباب، رفقًا حين تطرقه…
فإنه لم يعد في الدار أصحاب…”
وقد يُقابل أصدقاء الأمس، بملامح باهتة غيّرتها المحن، أو بأرواح مرهقة سكنتها المنافي، لكنّ الأرواح لا تخطئ نبض الوفاء، وستتعانق كما كانت. ومهما بدا الواقع شاحبًا، لا ينبغي أن نتركه يجرف بذور الأمل من قلوبنا…
وبالإرادة والعزيمة، سنعيد الماء إلى مجراه، وسيعود للبيوت دفئها، وللشوارع صخبها، وللوطن روحه.
وبين عشية وسَنا ضحاها سيبدو الفجر وضاحا مهيب
0 التعليقات