في نزعة حنين لأهلي الشوايقة، باغتتني ذات مغربية، تقلبتُ بين كمّ من أغاني الطنبور والسلكاية الحنينة، توقفت عند أغنية للمرحوم عيسى بروي:
أنا قلتو وين ماشي
قال لي مكان نفسي
مكان الخير كلو غاشي.. محمد وين
مكان فارقت أنفاسي
مكان زولي ومكان ناسي
مكان تاج عزة فوق راسي
مكان لا قالوا لا قلنا
لا هماز.. ولا واشي
...
عيسى بروي – رحمه الله – فنان مبدع، شديد الإحساس، معطون باللحون الباذخة والشدو الطروب، وفوق ذلك، له العديد من الأغاني صناعة خالصة: كلمات، وألحان، وأداء، ومنها الأغنية الشهيرة التي تغنّى بها صفوت الجيلي:
شايل الدموع يا حبي، لمن أعود وأجيك
أنا آه اشتقت ليك
عشت الظروف القاسية
ما كان بإيديا ولا بإيديك
...
عيسى بروي، بهذه الروح الجزلة والذات الشفيفة، تم الاعتداء عليه بالعكاكيز في حفل أُقيم بمنطقة أهله ومسقط رأسه، منطقة المناصير، لمجرد أنه غنّى لسد الحامداب. لم يُراعوا سنّه، أو رهافة حسه، ولم يحتملوا الاختلاف وتباين الرؤى، فانهالوا عليه ضرباً موجعاً تسبب له في شلل نصفي، وسافر إلى الأردن للعلاج. رحمه الله وغفر له.
وفي أم درمان، في دارهم ومكان تجمعهم، في بوتقة العسل الشفيف التي تنطلق منها الحناجر المرهفة اللطيفة لتجمّل ليالي الخرطوم، تم قتل الشفيف الظريف، الفتى الفنان الوسيم خوجلي عثمان. تم إزهاق روحه بطريقة بشعة مرعبة. رحمه الله وغفر له.
أياً كانت الأقاويل المروية والمسكوت عنها في حكاية قتل خوجلي عثمان، وما تناقلته خبايا الخرطوم عن علاقةٍ للأمر بأمور سياسية، فالشاهد أن السواطير تهاجم الجمال، والقبح يلمّ بالأزاهير، والعناكب تحارب الفراشات.
وشاب صغير يعتدي على صانع الفرح عوض جبريل، فيموت نازفاً مجروحاً، وما درى ذلك الشاب أنه قتل من ابتدَر حياته الجمالية الشعرية بالنص الباذخ المتفرد:
لي حبيب شاغل بالي، دائماً محطّم آمالي
لي حبيب، محروم منّو، لي زمن بسأل عنو
...
والتي غنتها الفنانة فاطمة الحاج، وامتد تعامل البدايات معها، لتغني من ألحانه الأغنية الفريدة:
كلما سألت عليك، صدّوني حُرّاسك
ردّوا الجواب قاسي، مع إني من ناسك
...
وتمتد سلسلة السواطير الهجامة الرجامة لتغتال الراحل بدر الدين عجاج، ويكفيه فقط أنه من لحّن للراحل مصطفى سيد أحمد الأغنية البديعة (لمحتك) من كلمات الشاعر الكبير المميز عبد القادر الكتيابي، وقبلهم سمعنا صغاراً عن قتل زنقار.
هذه إذن بلاد تُغتال فيها السواطيرُ المرهفين، فلا عجب أن يطلّ علينا الجنجويد في آخر الزمان... وعجبي حينما يغتال الساطور الإرهَاف، وتمتد أيادي الغدر والقبح والأشواك لتتربص بالجمال والأقاحي والورود.
رحمهم الله جميعاً، وحفظ بلادنا من كل شر.
0 التعليقات