كسير تلج.. ظرافة المبنى ومقتلة المعنى
**********
الزبير نايل
خيالنا الشعبي يتمتع بقدرة هائلة على اجتراح مفردات خارج سياق معانيها المعروفة، ليخفف بها حمولة المعنى ثم يمررها دون أن تحدث صدمة عند المتلقي..
(النفاق)...(المداهنة)...(التملق)...(التطبيل) كلمات تعافها النفس لأنها صفات ذميمة ومن الصعب أن نصف بها شخصا ما على الملأ.. ولكن كيف تحايل عليها هذا الخيال للتعبير عنها؟ ...
عكف خيالنا في صومعة لغته الخاصة وسبك لنا تعبيرا فريدا ومدهشا أصبح صكا متداولا كعملة مبرئة للذمة وهو تعبير (كِسْير التلج) ووضعه كمعادل بارد لتلك المعاني دون نفاذ أي رائحة مؤذية منه وليجعل غير الناطقين بالسودانية في حيرة لأن أعتى فيلسوف لتفكيك المعاني لن يصل للمعنى المقصود.
التعبير يبدو أنه وليدُ أزقةِ الحانات، حيث يتحلق هناك الندماء وبينهم كؤوس الصهباء ويطوف عليهم نادل مهمته تكسير الثلج وكيل المدح الكذوب لهم لتتحول سخونة تلك (المُدامة) إلى برودة تتغلغل في عصبهم الحي وتطرد وعيهم وتحلق بهم في عالم الأوهام.
الحديث يطول عن الصيغ التي يقال فيها هذا التعبير، لكن سألت نفسي: هل هناك شعوب تتوارى خلف عبارات باطنها التملق والمداهنة وظاهرها لا يوحي بذلك فوجدت كثيرا من النماذج وإن اختلفت الأساليب..
انظر يا هداك الله مثلا إلى واقعة الخليفة هارون الرشيد عندما وجد الشاعر (أبو نواس) في مكة المكرمة وقد كان يحمل خمرا.. باغته الخليفة بالسؤال ماذا بيدك؟ فأجابه أبونواس: هذا لبن.. فقال له هارون وهل اللبن أحمر؟ فرد عليه أبو نواس...
(لقد احمرّ اللبنُ خجلا منك يا أمير المؤمنين)..
يقول مؤرخو تكسير التلج إن هذا الرد كان أول مدماك في صرح (تكسير التلج) ... وأصبح الحسن بن هانئ (أبو نواس) المؤسس لهذا الضرب من التعبير رغم أن كثيرين نازعوه من بعد ذلك هذا اللقب…
تكسير التلج ليس مجرد تعبير شعبي ساخر، بل هو مرآة لما فينا من دهاء لغوي، ومواربة ذكية، وهروب ناعم من مواجهة الحقيقة، وحيلة لغوية سودانية بامتياز، تُستخدم لتقشير المعاني، ولتمرير الرسائل المبطنة في طبق من خفة الظل وسخرية الذات.
ويظل الوعي الشعبي هو الشعلة الوحيدة القادرة على إذابة هذا التلج المكسور، وكشف ما تحته من ماء خادع.
فلنضحك من المصطلح، لكن لنتوقف أمام مغزاه… لأن تكسير التلج في نهاية الأمر، قد يبدو ظريفا في اللفظ، لكنه قاتل للمعنى.
نقلا عن آكشن سبورت
0 التعليقات