نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
وللمزامير أحزان
"وداعًا يا خفيف الروح
خطاك سبقن خطاي للميس
حليل ضحكتك لسه ترن في البال
وكت نلقاك عند الباب
محمل بالشذى الفوّاح"
ثم:
"وحشت أميرة، مريم، ومي
وحشت غناي"
بكائية محجوب شريف، رثائية لسليمان عبد الجليل: الشاعر، الصحفي، الإنسان. أودعها محجوب شريف آيات من قاموس اللوعة، سجعا حزينا فاجعا
في هذا التفاتة، مدعاة للإفصاح عن كنه أغانينا، بين حزن ضرير جسور، وفرح يمسح صدأ الروح.
سليمان عبد الجليل يطلعنا على مشهد يغصّ بكل مفردات أوجاع الرحيل، المأساة، وأغنية (الرحيل).
هي في جوهرها بكاء ورثاء ووداع للتاريخ، للنهر الخالد، للنخل، للسواقي وأنينها الفاجع. وداع لتلك النوبية وضفائرها المرسلات. توثيق مر لتجريف ومحو أول بناء حضاري شهده الإنسان.
أغنية (الرحيل) ليست تجربة خاصة بالشاعر، بل هي صوت العشيرة. هي طرح لقصة ذكريات وأحلام وأمنيات؛ هي ترقب، فزع من المجهول.
"حليل الراحو خلّوا الريح تنوح فوق النخل"
كل مفردة، كل مقطع يخزّن حزنا ساطعا. وإنك لتنظر في ألوان من المفردات وما فيها من إشارات وإيحاءات، كلها تنادت لرسم هذه اللوحة المسكونة بالعذاب وأجناسه: (الجروف)، الطيور التي "توجوج".
ثم:
"يا حليل أرض الجزاير والمراكب والطنابير الترن"
ثم:
"يا غالية يا تمرة فؤادي الليلة ما عاد المراكب شرقن.. والقمري فوق نخل الفريق فاقد الأهل يبكي ويحن"
"تمرة فؤادي"، وليس أجمل من هذه المفردة. استعرض سليمان عبد الجليل كل منجدات الألفاظ المتصلة بالعاطفة، فما وجد أرقّ وأصدق تعبيرا من هذه الكلمة السودانية الأصيلة.
يريك الشاعر مشهدًا يضيء الذاكرة: المراكب ورحلتها الأبدية بين الشطين، الطنابير التي تملأ الليل تطريبا، وصبيات نجل العيون، وروعة الغناء (الكورالي) البهيج في مجالس العشيرة وبين الأهل.
اكتملت اللوحة، سيدي الشاعر. بلغت الرسالة غايتها.
ثم لنا زيارة إلى محراب إسماعيل حسن:
"دمع الحبايب زي دموع السارية
في الوادي البعيد بتسوي جو"
نعود إلى تجربة ذاتية، أغنية من أدب الرسائل، حزينة أيضا. وفي بث الأحزان تتسع مساحات للجمال والتفكر. وقد يصعب الإحاطة بكل محتوى هذه الرسالة الشعرية من ترف ونضارة وروعة سبك. ويدهشك لا محالة جسارة الشاعر وتمكنه، ذلك في اختياره لهذا (الروي)، أو القافية الغريبة الشائكة، وهي من نوادر ما ورد في الشعر العربي عمومًا.
غير أن شيخ المادحين حياتي، كتب في هذا الروي ما لم ينله إلا ثُلّة قليلة، فقال:
"ناهي النهو أنا لي في زيارتو هو"
انظر إلى تمكن الشيخ حياتي، وكيف أخضع هذا الروي الصعب، وهكذا فعل إسماعيل حسن.
الشاعر سكب مشاعر حرىّ جياشة مخاطبًا طير الرهو، وهو طائر لا يغيب عن سهول السودان ووديانها أبدا. في كل عام تحمله رياح شوق ملح لعش باض فيه وأفرخ. وفي ذاكرة المزارعين صورة للوفاء تتمثل في هذا الطائر، وهو يعبر كل أرض الهلال الخصيب، عابرا إلى جزيرة العرب، لا يلتفت ولا تغريه جنات عدن، حتى إذا بلغ أرض النيلين أرخى جناحيه، وحطّ على ذؤابات الأشجار، فهدأت روحه وسكنت تباريح شوقه.
قد يطول الحديث عن إسماعيل حسن "ود حد الزين" وروعة إبداعاته، وقد يلزم الإسهاب. وأغنية طير الرهو تحيلنا إلى سؤال عن الرمز والترميز: من هو طير الرهو؟
0 التعليقات