محمد الخطيب
mkhateeeb@gmail.com
في مساءٍ تتسع فيه السماء لأحلام الملايين، ارتدى منتخب السودان قميص الوطن بكل ما فيه من ألوان ومعانٍ، وصعد إلى المستطيل الأخضر لا ليخوض مباراة عابرة، بل ليصنع ملحمة كروية تُروى للأجيال. كان الموعد مع نيجيريا، أحد عمالقة القارة، لكن “صقور الجديان” قرروا أن حجم الطموح لا يُقاس بعدد البطولات في الخزائن، بل بصلابة الإرادة في الميدان.
انطلقت صافرة البداية، ومعها بدأ العزف الأول على أوتار المجد. كرة عرضية تحولت بخطأ دفاعي إلى مرمى نيجيريا، وكأن القدر اختار أن يفتتح اللوحة بلمسة من دراما الانتصارات التاريخية. الهدف المبكر لم يكن مجرد تقدم في النتيجة، بل إعلان صريح أن السودان جاء ليحكم المباراة.
وقبل أن يلتقط الخصم أنفاسه، كان والي الدين خضر يقف بثبات أمام ركلة جزاء، يسددها بقوة وثقة، لتستقر في الشباك، ويعلن أن النصف الأول من الحكاية سيكتب بلغة الحسم. ومع نهاية الشوط الأول، كانت ملامح الانتصار ترتسم في العيون، لكن المشهد الأجمل كان لا يزال في الطريق.
الهدف الثالث في الشوط الثاني حمل توقيع المهاجم عبد الرؤوف يعقوب ، الذي لعب كما لو كان يحمل على كتفيه رسالة أمة بأكملها. في الدقيقة 55، انفرد بالشباك ووقع الهدف الثالث، ثم عاد بعد سبع دقائق ليضيف الرابع، مكمّلًا سيمفونية النصر، ومحولًا المباراة إلى عرض كروي يليق بملاعب الكبار.
وراء هذا التألق، كان يقف المدرب كواسي أبياه كقائد أوركسترا يعرف كيف يوزع الأدوار، متقنًا المزج بين الصلابة الدفاعية والانتقال السريع للهجوم، وبين ضبط الإيقاع وكسر الرتابة في اللحظة المناسبة. لم يكن الملعب مجرد ساحة تنافس، بل مسرحًا لذكاء تكتيكي وجرأة في اتخاذ القرار.
لكن الرباعية لم تكن مجرد أرقام في سجل البطولة، بل كانت رسالة عابرة لحدود السودان، رغم ما يعصف به من تحديات وأزمات، قادر على أن يرفع رأسه عاليًا، وأن يزرع الفرح في قلوب أبنائه. كانت لحظة عزّة، التفت فيها الجماهير في الداخل والخارج حول شاشات التلفاز، تتنفس الفخر وتغني باسم الوطن.
وحين دوّت صافرة النهاية، سقطت كل الفوارق بين مدينة وقرية، بين مشجع في الملعب وآخر على بعد آلاف الكيلومترات؛ فقد اجتمعوا جميعًا تحت راية واحدة: راية النصر. كانت الليلة التي أثبت فيها السودان أن الانتصار الحقيقي هو أن تؤمن بنفسك حين يظن الآخرون أنك انتهيت، وأن تصنع الفرح حين يعتقد الجميع أن السعادة بعيدة المنال.
هكذا كتب “صقور الجديان” فصلًا جديدًا في كتاب الكرة السودانية، فصلًا يقول للأمة كلها: نحن لسنا مجرد فريق، نحن قصة وطن يعرف كيف يقاوم، وكيف ينتصر، وكيف يحوّل الحلم إلى واقع يرفرف في سماء القارة.
0 التعليقات