وهج الكلم
د. حسن التجاني
• من مبادئي الحياتية أنني لا أزاحم المسؤولين في مواقع عملهم، ونادرًا جدًا ما أكون حريصًا على زيارتهم خلال ساعات العمل، حتى في قضاء الضروريات التي تدفعني إلى هناك.
• قناعتي في ذلك أن مثل هذه الزيارات لا تخلو من أن تُفسَّر خصمًا عليك أولًا، وعلى المسؤول نفسه، خاصة إذا كان يدير موقعًا يقدم خدمات للجمهور. هذا جانب، أما إذا تكررت، فقد تلاحقك الشكوك الأمنية بأنك تستغل علاقتك بذلك المسؤول لإنجاز معاملاتك، مما قد يصاحبها بعض التجاوزات في الضوابط إكرامًا للعلاقة، فلا تسلم أنت من الاتهام، ولا يبرأ هو من الملاحقة ظلمًا.
• الزيارات الخاصة ينبغي أن تكون بعيدًا عن موقع العمل وفي نهاية الدوام، وإذا كنت صاحب حاجة، فاذهب بها مباشرة إلى شبابيك المعاملات دون اللجوء إلى زميلك المسؤول، ثم أتمم مهمتك و"اتخارج". هذا هو الصحيح. لكن لأن الناس في السودان اعتادوا على الواسطة و"الجرجرة"، لا يطيب لهم الأمر إلا بزيارة المسؤول والجلوس أمامه بالساعات، مما يعطل مهامه، ويعكر مزاجه، ويستهلك وقته وضيافته، وهو في حرج من أن يبدي تجاهك أي تصرف سلبي يُحسب عليه.
• هذا الموضوع يحتاج إلى أكثر من عمود أو حتى بحث علمي يُكتب تحت عنوان: "أثر زيارة الزوار للمسؤول أثناء العمل والآثار المترتبة عليها".
• ما شدني للكتابة في هذا الأمر أن كثيرًا من الزملاء يشكون من سوء استقبال بعض المسؤولين لهم أثناء ساعات العمل بمكاتبهم، وفي تقديري أن هذا عدم توفيق من بعض المسؤولين، والدليل على ذلك أن بعضهم يوفَّق في حسن الاستقبال والأداء وجودته، فينال إعجاب متلقي الخدمة. هذه المعاملة الراقية، التي لا ينال منها الموظف أو المواطن أي امتياز خاص، تجبرك على احترام ذلك المسؤول بطيب خاطر. ولذا، حين يغادر مثل هذا المسؤول موقعه، يترك أثرًا طيبًا لا يمحوه إلا ذكراه العطرة في نفوس الناس.
• أكتب اليوم بقلم مبلل بحبر الفراق وعبق المسك... ورغم أنني ضابط شرطة سابق وأعلم تمامًا أن الضابط لا يمكث طويلًا في موقعه إلا وينتقل إلى مكان آخر أو يغادر الخدمة نهائيًا، إلا أن بعض الضباط، لأنهم عملة نادرة، تتمنى أن يبقوا في مواقعهم دائمًا، فقط لأنهم يستحقون، ولأنهم على قدر المسؤولية التي تجعلك تتمنى بقاءهم لسنوات عديدة.
• العمل الشرطي بالجوازات والسجل المدني بالسفارات عمل حساس جدًا، وليس من السهولة أن يقوم به أي شخص عادي، بل يحتاج إلى أشخاص بمواصفات عالية الجودة: أخلاق، وطهارة يد، ونفس عفيفة، وأدب، وذوق، ومظهر، ودبلوماسية تجعلك تشعر بأنك على قدر المسؤولية التي يمنحك إياها الجواز الدبلوماسي.
• العقيد رحمة الله الفارس، مدير جوازات الرياض بسفارتنا في المملكة العربية السعودية، يحمل كل هذه الصفات الدبلوماسية، وهو الآن يتهيأ لطيّ حقائبه معلنًا نهاية فترته المقررة وعودته إلى وطنه السودان.
• ساقني أمر مهم إلى سفارتنا بالرياض، وعلمت أن الفارس هو المدير. لم يكن الأمر جوازًا، ولا قيدًا مدنيًا، ولا شهادة ميلاد، بل أمرًا ليس من اختصاصه المباشر، لكن بحكم زمالته للآخرين كان يمكنه المساعدة.
• قلت: أحييه وأسأله عن الأمر. فوجدت شخصًا مختلفًا تمامًا عن كثيرين كانوا سببًا في إحجامي عن زيارة سفاراتنا في دول العالم، وما أكثرها، إلا القليل النادر منها.
• استقبلني الفارس بترحاب أولاد البلد، مرحبًا بي خير ترحيب، وسلامًا يشفي العليل، وكان هذا كافيًا لأحمل عنه انطباعًا إيجابيًا طيبًا. بل وجدت المعاملة ذاتها مع كل من دخل مكتبه، إذ يقف ليستمع ويجيب بأدب وأخلاق، مطيبًا الخواطر.
• نموذج العقيد رحمة الله الفارس نحتاجه في كل سفاراتنا بالعالم، ولا أقول هذا مجاملة، ولا لحاجة عنده، فأمري كان مقضيًا به أو بغيره، ولكن من يُحسن يجب أن نقول له: أحسنت. وها نحن نقولها لك اليوم وأنت تهم بالمغادرة: لقد أحسنت، وأجدت.
• أمثال العقيد الفارس يجب الاحتفاء بهم والحرص على بقائهم في المواقع المهمة، كالمجمعات الخدمية الكبيرة، والقصر الجمهوري، ومجلس السيادة، ووزارة الخارجية، إن كان لكم فيها مكاتب يا أخي اللواء الدكتور عثمان دينكاوي، مدير الإدارة العامة للجوازات. ليس لأنها مكاتب مهمة فحسب، بل لأن العقيد الفارس وجه مشرق ومشرف، لله دره.
• سطر فوق العادة:
يقولون إن العلم يتهذب بسلوك من يحمله، وهذا لا ينطبق على كثيرين، بل على القلة منهم، وينطبق تمامًا على العقيد رحمة الله الفارس، الذي يحمل درجة الماجستير، وهو من تلك القلة ذات السلوك المهذب والخبرة الواسعة.
• اذهب، أخي الفارس، إلى السودان، فنحن في أمسّ الحاجة إليك هناك، فكثيرون ينتظرونك. اذهب وكن مطمئنًا أنك أديت الأمانة كما ينبغي، وأحسنت الأداء.
• لست من المبالغين في شكر الأشخاص ومدحهم دون وجه حق، لكن مع من يستحقون، أبالغ عن طيب خاطر. كل الأمنيات، أخي العقيد رحمة الله الفارس، بالتوفيق في موقعك الجديد، أينما كان، فأنت كالغيث أينما حلّ نفع، ولخلفك القادم الدعوات بأن يحذو حذوك، وما ذلك على الله ببعيد.
(إن قدر لنا نعود)
0 التعليقات