أكرم الحلاوي
في مجتمع تتداخل فيه الأعراف مع الأنظمة، وتعلو فيه لغة المجاملة أحيانًا على صوت الحق، تبرز ظاهرة جديرة بالتأمل: لماذا يتردد البعض في المطالبة بحقوقهم؟ وهل ما نراه من صمت أو تراجع هو نوع من الحياء، أم أنه في حقيقته تخوّفٌ غير مبرر من استخدام الوسائل القانونية المتاحة؟
الحق – بطبيعته – لا يُطلب باستحياء، ولا ينبغي لصاحبه أن يتردد أو يعتذر عند المطالبة به. ومع ذلك، نشهد في واقعنا اليومي صورًا كثيرة لأشخاص يتخلّون عن حقوقهم في صمت، لا لعدم أحقيتهم بها، بل بدافع الخجل أو تجنّب الإحراج الاجتماعي أو العائلي. وهنا تقع الإشكالية.
حين يتحوّل الصمت إلى تنازل
في العديد من الحالات، يُفهم الصمت عن الحق على أنه "رضا"، ويُترجم التردد في التظلم على أنه "تنازل"، فيضيع الحق ويستمر الخطأ. والمقلق أن هذا النمط من التفكير يُكرّس ثقافة سلبية، مفادها أن المطالبة بالحقوق نوع من الوقاحة أو قلة الذوق، لا تعبير مشروع عن الاستحقاق.
ومن هنا تنشأ الحاجة إلى إعادة صياغة الوعي الحقوقي لدى الأفراد، خصوصًا في ظل نظام قضائي وعدلي متطور، يتيح للجميع أدوات قانونية واضحة ومنصفة.
شواهد من الواقع القانوني
1. النفقة بين الصمت والحق
كثير من النساء يترددن في المطالبة بنفقة الأبناء بعد الطلاق، خشية من نظرة المجتمع أو خوفًا من “كسر خاطر الأب”، رغم أن النظام الشرعي والقانوني واضح في كفالة هذا الحق. والمفارقة أن الامتناع هنا لا يُعتبر ترفّعًا، بل يُعد تقصيرًا في حفظ حقوق الأطفال.
2. ظلم إداري مغطّى بالخوف
عدد من الموظفين والموظفات يتعرضون لمخالفات صريحة لنظام العمل، كخصومات غير مبررة أو ساعات عمل إضافية دون مقابل، لكنهم يُفضلون الصمت بدلاً من التظلم، خشية من فقدان وظائفهم أو اتّهامهم بـ"التمرد". مع أن النظام يمنحهم الحق في التظلّم ورفع الشكاوى عبر قنوات رسمية تحمي العامل وتحفظ حقوقه.
3. تردد في التقاضي
نقابل حالات كثيرة لأشخاص يُماطل آخرون في تسديد ديونهم أو يعتدون على ممتلكاتهم، لكنهم لا يُقدِمون على رفع دعوى لاسترداد حقوقهم، بحجة "عدم التصعيد"، أو لأنهم "لا يريدون مشاكل". والغريب أن ذات الأشخاص يشتكون من الظلم طيلة سنوات، وهم يمتنعون عن اللجوء لأبسط الحلول القانونية.
4. تجاهل التظلمات الإدارية
يتعرض بعض الموظفين لقرارات إدارية مجحفة، سواء في الترقية أو التنقل أو الحوافز، ولا يتظلمون في الوقت المحدد، رغم أن الأنظمة (كالتظلم خلال 60 يومًا من القرار) تمنحهم هذا الحق. هنا يتحوّل التأخير إلى إسقاط للحق، لا لضعف الحجة، بل لضعف المبادرة.
ثقافة لا بد أن تتغير
إن ما نحتاج إليه ليس فقط معرفة القوانين، بل تغيير النظرة الاجتماعية تجاه من يطالب بحقه. فالمطالبة ليست خصومة، ولا تصعيدًا، بل تصرّف حضاري يعكس احترام الإنسان لنفسه ولنظام دولته. وكم من شخص نُزع حقه لأنه خاف أن يُسيء الآخرون فهمه!
بل الأعجب أن بعض الحقوق تُعتبر "محرجة" لمجرد أنها تُطالب علنًا، كما لو أن في استخدام القانون عيبًا أو قلة مروءة. وهذه مغالطة يجب أن تُعالج بالتثقيف والوعي، لا بالتواطؤ بالصمت.
ختامًا:
ليس في المطالبة بالحق عيب، وليس في استخدام النظام غضاضة. بل إن كرامة الإنسان تُحفظ حين يعرف حقه ويطالب به في وقته، وبالوسيلة التي كفلها له النظام.
فالحقوق لا تُستجدى... بل تُؤخذ.
والخوف منها لا يُنتج إلا مزيدًا من الظلم.
0 التعليقات