محمد الخطيب
حين تتساقط المدن تحت وابل القذائف، وتغدو الملاعب أطلالًا صامتة، ينهض الهلال السوداني من قلب الخراب كطائرٍ أسطوري يرفض أن يُدفن تحت رماد المأساة. إنّه الكيان الذي لم يتعامل مع كرة القدم يومًا كمجرد لعبة تُركل فيها الكرة بين مرمى وآخر، بل بوصفها رسالة حياة، وذاكرة وطن، وصوتًا يقول للعالم: ما زلنا هنا.
الهلال، هذا الاسم الذي نقش نفسه في صفحات التاريخ منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ظل وفيًّا لروح المجد التي تأسس عليها. لم تهزه العواصف، ولم تنل منه الأزمات التي عصفت بالرياضة السودانية. ففي زمنٍ انطفأت فيه أضواء المنافسات المحلية، وأُغلقت فيه المدرجات، ظل الهلال يحافظ على نبضه، مستمرًا في إعداد لاعبيه وتحصينهم نفسيًا وبدنيًا، وكأنه يخوض مباراة العمر كل يوم.
كان بإمكانه أن يركن إلى السكون، أن ينتظر حتى تهدأ العاصفة، لكنه اختار أن يصنع طريقه وسط الركام. نظّم معسكرات خارجية في دول بعيدة، وانتقل بلاعبين وجهاز فني في رحلة محفوفة بالمخاطر، ليؤكد أن العزيمة ليست رفاهية، وأن من اعتاد القمة لا يرضى بالمقاعد الخلفية. ولأن الإدارة الواعية تعرف أن البطولات تُصنع في اللحظات الحرجة، فقد أحاطت الفريق برؤية واضحة، من التعاقد مع محترفين قادرين على صناعة الفارق، إلى توفير البيئة التي تحفّز العطاء.
نجح الهلال في الحفاظ على قامات كروية شامخة، على رأسها الهداف محمد عبد الرحمن "الغربال"، الذي لم يكن مجرد مهاجم، بل كان روحًا تسري في جسد الفريق، يترجم الإرادة إلى أهداف، ويحوّل الضغط إلى انتصارات. وعلى الرغم من رحيل المدرب الكونغولي فلوران إيبينغي، فإن بصمته الفنية بقيت ماثلة، حيث غرس أسلوبًا منظمًا، وجعل الفريق يلعب بروح واحدة تتجاوز الفوارق بين المحليين والمحترفين.
وإذا كان الملعب قد تضرر وتعرض للتخريب، فإن الشعار الأزرق ظل عصيًا على الهدم. ذاك الشعار الذي يتزين به قميص اللاعبين، وتُرفرف رايته في كل قلب عاشق، كان الحصن الأخير الذي لم تسقطه قذيفة، ولم تمحه يد العبث. ومن بين المقاعد المحطمة والمدرجات الفارغة، ظل الهلال يبعث برسالة تتجاوز الرياضة: نحن نعرف كيف ننهض، حتى وإن انكسرت المرايا من حولنا.
الهلال اليوم لا يطارد لقبًا فقط، بل يحارب من أجل معنى أعمق: أن تظل الحياة ممكنة، وأن تبقى أحلام الملايين حيّة مهما ضاقت السبل. لقد تحوّل إلى نموذج يُدرّس في كيفية تحويل المحنة إلى منحة، والفراغ إلى فرصة. هو قصة عن الصبر، عن الانضباط، وعن التمسك بالقيم حتى حين ينهار كل شيء.
هكذا، يكتب الهلال فصله الخاص من ملحمة كرة القدم السودانية، بمداد العزيمة والحب والوفاء. وفي زمن الحرب، حيث تُهدم البيوت، وتُغلق المدارس، وتُطوى الملاعب، يظل الهلال ثابتًا، مرفوع الرأس، يردد مع جماهيره التي تتابعه من خلف الشاشات: لن نترك المجد يموت، فالهلال خُلق ليبقى، ويُحلّق… مهما اشتدّت العواصف.
0 التعليقات