حصاد الألسن – عبدالله مسعود
في كل العالم تحرص الدول على رعاية المبدعين والعناية بهم، لا فرق إن كان الإبداع في مجال الفن أو الأدب أو الرياضة، باعتبارهم ثروة قومية. هذا الاهتمام والرعاية واحتضان ذوي المواهب والمبدعين هو الذي يحفّز أولئك النفر على تجويد ما حباهم الله به من ملكات ومواهب وتطويرها، بحيث تشجّع النشء وتدفع بهم في السير على خطى المبدعين، وإن تخلّت عنهم الموهبة.
أقول قولي هذا وأنا من الحزن في نهاية، أن يرحل عنا المبدعون الذين أثروا حياتنا بفنونهم وتضحياتهم أو ينزووا عن دائرة الضوء بعد أن نالت من أجسادهم الشيخوخة والمرض والعوز، ونحن نمارس معهم ذلك السلوك البغيض والمشين في آن، وهو الإهمال ونقص القادرين على التمام. كل ما ينالهم من تقدير شعبي هو كلمة غير منطقية: "الله لا جاب يوم شكرك"! تصوروا!! عرفنا أنكم بخلاء بالشكر، ولا تجودون به إلا عند الموت، وتوزعونه في كرم حاتمي على "اللي يسوى واللي ما يسواش". طيب إنتي حنكك شنو يا الدولة!؟ الدولة لا تكرّم إلا الموالين، ولو كانوا مبدعين على الهبشة (مبدعين نص كم)!!
سقت هذا الحديث وبالحلق غصّة، وفي الفؤاد لوعة، أن يُحال العالم الفذ البروفيسور محمد عبدالله الريح إلى المعاش دون معاش. لا عاش من حرم الأستاذ الجامعي ود الريح من المعاش، وهو حق مشروع كفله له قانون التوظيف بجامعة الخرطوم. هذا المبدع قبل أن يكون أستاذ علم الزيولوجي، كان مثّالاً، وعازف كمان، ورسام كاريكاتير، وقارض شعر، وكاتب وهو في ميعة الصبا، ومحصل علم بمدرسة خورطقت الثانوية التي جمعتني به في فصل واحد طيلة سنوات الدراسة. كل تلك المواهب والاجتماعيات لم تنل من تفوقه الدراسي، فكان حادي ركبنا. دخلنا جامعة الخرطوم عام 1960م، فتعتّقت مواهبه، فحرّر جريدة حائطية كان يكتب مواضيعها المتعددة بمفرده: فكاهة وأخبار ورسومات وأشعار. ثم دلف إلى مجتمع الخرطوم مقتحماً الإذاعة كمقدّم برامج متنوعة.
بعد التخرج بامتياز عام 1965م، عُيّن معيداً في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، وابتعث إلى كندا لنيل الدكتوراه، وعاد للتدريس، ومن ثم لإدارة متحف التاريخ الطبيعي، إلى جانب تقديم برامج دورية في الإذاعة والتلفزيون، والكتابة الراتبة في الصحف، وتأليف الكتب.
هذا المبدع والأستاذ الجليل لم يُكَرَّم، ولا أدري أين هو الآن، ولكن أتابع كتاباته بشغف، وأدعو له بكمال الصحة وتمام العافية.
0 التعليقات