أحمد حسن حيمورة
لا أجد ما يدعوني إلى أن أُقصِر كتاباتي عبر وسائل التواصل على الإدانة والشجب وتقييم تكنوقراطيي الحكومتين، والمراوحة بين الصمود والتأسيس والكرامة، ونعْي الشهداء، والشماتة في الأعداء، كما يطالبني بعض المتوشحين بالسياسة، ممن يظنون أن الكتابة – أو حتى التعليق – على الموسيقى والغناء أو الرياضة عمومًا، وكرة القدم تحديدًا، ضربٌ من العبث في ظل ظروف هذه الحرب، التي – وللمفارقة – يسمّيها الجميع "الحرب العبثية".
والغريب أن كلمة "العبث"، التي اشتُقّت منها تلك الصفة، هي ذاتها المرادف لكلمة "اللعب" التي يأباها ويستحي منها أولئك البعض.
وربما كان لكثير منهم العذر؛ كونهم وُلِدوا من أمهات يُشكّل إغلاق المذياع والتلفاز لأربعين يومًا طقسًا من طقوس الحِداد على أمواتهن. وكونهم انحدروا من آباء يسمّون أي حفل غنائي "لَعْبة"، ويعزّز ذلك عرفٌ محافظ، وإرث لغوي عتيد، وربما نصوص مقدسة في بعض الأحيان.
ففي كل اللغات، تظل كلمة "اللعب" صنوًا للهزل ونقيضًا للجد؛ فالسيف دائمًا كان أصدق إنباءً من الكتب، وكان في حدّه الحدُّ بين الجد واللعب.
وفي معجم المعاني الجامع تجد:
لعِبَ / يَلعَب، لَعِبًا ولِعْبًا، فهو لاعب، والمفعول ملعوب
• لعِبَ الشخصُ: عمل عملًا لا ينفع، وعكسه جَدَّ.
وفي معجم أكسفورد:
play means
engage in activity for enjoyment and recreation rather than a serious or practical purpose.
لكن ما يرد في المعاجم، وما يبدو وكأنه راسخ في أذهان العديد من الناس عن الشك في جدوى حفلات الموسيقى ونشاط كرة القدم، يدحضه الاهتمام العالمي بهذه الممارسات، ويوثقه واقع الأرقام: أرقام المشاركات، وما يُصرف عليها من أموال، وما تجلبه من عوائد مادية مباشرة، ناهيك عن الفوائد غير المادية التي لا تُحصى.
فالأرقام تقول إن مبيعات تذاكر الجولات الموسيقية التي قامت بها المغنية تايلور سويفت وفرقتها – وفقًا لمجلة بولستار – بلغت في عام 2023 ما مجموعه 9.17 مليار دولار.
وتقول الأرقام إن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يعتزم تقديم ميزانية قياسية للإيرادات، لمدة أربعة أعوام، بقيمة 13 مليار دولار للفترة 2023–2026، بحسب تقريره السنوي المرسل إلى اتحاداته الأعضاء.
وتقول الأرقام إن اللاعب البرازيلي نيمار هو صاحب أعلى قيمة تسويقية للاعب كرة قدم، وقد فاقت 220 مليون دولار.
ورغم أن تلك الأرقام الفلكية نعبّر عنها بمفردة "الخمج" التي نستخدمها، فإنها قطعًا ليست هذرًا، بالرغم من أن مصدرها لا يزال في خلد الكثيرين مجرد "لعب"، كما تفسّره تلك المعاجم والأعراف، وتصفه بأنه نشاط لا فائدة منه.
لكن الأرقام تثبت أن الأمر أصبح أكبر بكثير من مجرد لعبة أو رياضة، وأن ممارستها تحوّلت إلى استثمار وصناعة كبرى، تجذب رؤساء وأمراء دول، ومستثمرين، وتجارًا، وشركات كبرى حول العالم.
عليه، نطالب – وبملء الفم – بإسقاط كل مفردات المعاجم غير المواكبة لما صارت عليه هذه الأنشطة، وتغيير تلك الأعراف التي عفا عليها الزمن.
ولكل من يعتقد بميتة قلوبنا، وغلبة هذرنا على جدّنا من الأوصياء والمتثاقفين، نطالبكم أن تتركونا نسدر في غيّنا، نُكاوي غرماءنا المنجّمين، ونعادي العِدا، وندعو للبلاد بالأمن والسلام، ونُشهر السؤال الذي صاغه المرحوم حدربي محمد سعد وتغنّى به إدريس إبراهيم:
"تحسبوا لعب؟"
0 التعليقات