كلمة حرة مباشرة
عصام الخواض
في قصة رمزية تبدو بسيطة في ظاهرها، عضّت الكوبرا الثعبان، فعصرها الثعبان حتى الموت، وماتا معًا. لم ينجُ أحد، ولم ينتصر أحد. كلاهما كان قويًّا، ماهرًا، سريعًا، وكلاهما كان يحمل نفس الجينات تقريبًا. ربما وُلدا في بيئة واحدة، وتغذّيا من نفس الأرض، وعبرا نفس الرمال، لكن لحظة النزاع كانت كفيلة بإفنائهما معًا.
وهكذا هو حال الأقارب حين يتحولون إلى خصوم، والأحبة حين تُستبدل الرحمة بالضغينة، والإخوة حين يُستبدل الحنان بالعناد. حين يختلف الغرباء، فالأمر مفهوم، أما حين يتنازع من يتقاسمون البيت واللقمة والماضي والذكريات، فإن الخسارة مضاعفة. الجرح يأتي من اليد التي اعتادت أن تربّت، والطَعنة من الظهر الذي ساندك يومًا، والخسارة ليست فقط مادية أو وقتية، بل روحية، عميقة، مزعزِعة للثقة والطمأنينة.
النزاعات بين الأهل أو الأصدقاء لا تبدأ بانفجار، بل بهمسات ظن، وغمزات حقد، وتراكمات غير مفهومة، كأننا نتحوّل ببطء إلى أعداء دون أن ننتبه. نتراشق بالتأويلات والاتهامات، نحمل الماضي على ظهورنا، وننسى أن من أمامنا كان يومًا سندًا في لحظة عجز، أو حضنًا في لحظة انكسار.
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل معيار الخيرية كثرة الصلاة أو طول اللحية أو وفرة المال، بل قربك من أهلك، ورفقك بهم، وعطاؤك لهم، ومواقفك معهم. فمن لا خير فيه لأهله، لا خير فيه للناس.
فلنتذكّر، قبل أن ننفجر، أن الشقاق لا يُبقي على شيء، وأن العناد لا يُثبِت الحق، وأن كل كلمة جارحة نُلقيها في لحظة غضب تصبح سكينًا يصعب نزعها لاحقًا. وأن العودة عن الخطأ ليست هزيمة بل بطولة، وأن الاعتذار لا يُنقص من هيبتنا بل يُعلي من إنسانيتنا، وأن من يصفح لا يُهزم، بل ينتصر على أناه المتغطرسة، وأن من يتجاوز لا يخسر كرامته، بل يصون قلبه من التآكل.
كثيرون هم من اختاروا القسوة ثم ندموا بعد فوات الأوان، وكثيرون من اختاروا التسامح ومضَوا في الحياة بقلوب أخف. التسامح ليس ضعفًا كما يروّج البعض، بل هو قمة القوة، حين تكون قادرًا على الانتقام ثم تختار العفو.
كلنا نُخطئ، وكلنا نؤذي ونُؤذى، وما الحياة إلا مجموعة من المواقف التي تختبر ما فينا من صفاء أو ضغينة. وما أجمل أن نختار أن نمضي دون أحمال، دون كراهية، دون رسائل مسمومة في الصدر، أن نمضي وفي القلب متّسع للصفح، للودّ القديم، للذكريات التي لا تزال تتنفس في زوايا الروح.
احذروا فتن الحياة، فهي لا تأتي دائمًا من عدو، بل كثيرًا ما تأتي من قريب يحمل جرحًا قديمًا لم يُشفَ. احذروا من أهل الضغائن وكاتمي الشهادة، فهم وقود كل فتنة، ولا تنسوا أن البيوت لا تنهار من الخارج، بل من داخلها.
فلتكن قلوبنا أوسع، وعقولنا أرحم، ونفوسنا أرقى. فلربما تكون الكلمة التي تمسّكنا عنها اليوم، أو العناق المؤجل، أو الرسالة التي لم نكتبها بعد، هي ما يُبقي البيت عامرًا بالسلام غدًا.
فلنتجاوز لنربح، ولنصفح لنرتاح، ولنعِش بلا كراهية... فالحياة أقصر من أن نملأها بالحقد، وأوسع من أن نضيّقها بخلاف.
0 التعليقات