نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
كان ذاك زمانًا للرومانسية التي أسرت الإنسان في كل بيئاته، انداحت أطيافًا من العطر الجميل.
النيل لا يخلف وعدًا، تنمو على شطآنه فراديس خضراء، وبراعم الفنون في أجناس الأدب والموسيقى تزدهر كل يوم، تتفتق.
إذاعة أم درمان تبث ألوانًا من مبتكرات الإبداع وجلائل الغناء. عبد الرحمن الريح، "العرّاب" الذي أودع القلوب شغفًا بأغنيات رشيقة أروت ظمأ المستمع من صالون "حقيبة الفن"، ها هو يرتب أوتار العود، يخطو نحو أفق جديد من التجليات.
ثم بدأ زمان أغنيات المدرسة الوترية، فصدحت أصوات ملأت الفضاء شدوًا بديعًا.
وتنبه المستمع لصوت طروب يتسلل إلى القلوب، صوت مسكون بدفء ولطف أهل السودان، كلمات مأخوذة من أفواه الناس، يحيلها ذلك الأسمر النحيل إلى طاقات، شارات، رسمت خطوطًا على كتاب الغناء السوداني.
هيأت الأيام لقاءً بين إسماعيل حسن، والمدرّس القادم من أرض الحضارات القديمة، يحمل في ضفاف الذاكرة غناء النهر للسهول الخضراء اليانعة، غناءً موسومًا بأصالة رصينة.
هكذا شاء القدر.
كان لقاءً بعد تسفار طويل، كأنهما كانا على موعد... التقيا كما يلتقي النيلان.
وبدأت الأغنيات تطير في الفضاءات محلقة كالعصافير، وبدأت مواكب ومهرجانات للغناء الجديد.
كان إسماعيل حسن يكتب أغنياته بإدراك ووعي تامّين، يغني للمدينة بلغتها، بأحاسيس أهلها، غير أنه يخضع كل ذلك لمنهج التذوق.
وهل كانت المدينة إلا قرية كبيرة؟
صوت وردي نقل تلك الكلمات، بسهولتها، وعمق دلالاتها، إلى المستمع.
كان غناءً جديدًا، يخاطب الوجدان، يمس القلب مسًّا رقيقًا.
وامتلأت شرايين الأثير بغمامات بيض من سحر "هاروت"، تغشى الساحات والحدائق ومجالس الأُنس، في المقاهي، وغرف الطلاب، وليالي السمر والمسامرات، وفي الأعراس.
وإنك لا تستطيع الإحاطة بذلك العصف الغنائي الذي لا ينتظر...
تتوالى الأغنيات، تترى:
نور العين، لو بهمسة، الحبيب، المستحيل، صدفة، وغيرها من أشجار الغناء، زهرها، وثمرها، وعطرها، وظلها الحرام.
ثم لا ينسى إسماعيل إصدار غناء تراثي، فكتب: القمر بوبا، والريلة.
ووردي وهو يُسجع، سجع الحمام بصوته العذب الساحر، يضعك أمام إحساسين: أدناهما لوعة وهيام، كهيام ذاك النهر، إذ يستلهم حُسنًا...
طرب النيل، وطربنا، طرب كل شيء أيها الهرم الأكبر!
ومن أي بيدر؟ من أي دوحٍ حظيت بكل هذا الاقتدار البديع؟
إنه إعادة باستزادة، وتجويد عالٍ لمجد الغناء العربي منذ أيام الرشيد وزرياب.
وذات أمسية ندية، في ليلة من ليالي المسرح، انتظر الجمهور المفتون الأغنيات الجديدة لمحمد وردي.
صعد الكروان، وغنى ما لم يألفه الناس في مواسم أغنيات وردي، وكانت: "قسم بمحيّاك البدري"...
كان سحرًا، سحرًا محضًا، تسرب النغم إلى قلوب رواد المسرح.
أيقظ وردي ورود الغناء التي غفت، أعاد الروّاد إلى أيام كرومة بعد طول غياب، أدخل الفنان محبّيه في ألبوم الغناء الأصل، الغناء بكؤوس من سلسبيل ذلك الجيل المؤسس.
ألم أقل إن محمد وردي... فنان لكل الأزمنة؟
ألتقيكم مرة، وربما أكثر... مع وردي.
0 التعليقات