نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
محمد عثمان وردي... هذا فضاء يعجز طائر النار عن إدراكه.
هو ظاهرة، مشهد تجريدي تداخلت فيه خيوط متباينة، اختلفت، ثم أخضعها الساحر الملهم، فكانت لوحات بهية الجمال تتصل بالإنسان، بأحاسيسه، وبنبض قلبه.
ومحمد وردي ابن بيئته، وللجزر أثر، ذلك لطبيعة المكان وما فيه من بعض عزلة؛ هذا أكسب الفنان حساسية بالغة. فليل الجزيرة يسكب في الروح شيئًا من لوعة، ويبدو الصوت تعتريه رنّة حزن لا تُخفى. ومن المأثور: أن الحزن سيّد الفرح.
وللنخلة حضور في المخيلة، وما أشبه وردي بنخلة أرسلت جذورًا عميقة في رحم التربة، وهذا بعض ما نراه من جسارة وردي والتزامه بمعتقده. سنرى ذلك في حكايا نوردها لاحقًا.
هيأت الأقدار وردي ليكون فنانًا، فنانًا لا غير، فنانًا في كل أطياف الفن. فهو الموسيقار، المغني، الملحن. ووردي المدرّس هو الفنان، وليس المعلم إلا فنانًا لا ريب.
كانت أغاني أهلنا النوبيين يعتريها بعض وجد ولمحة حزن، وكان صديقنا الفنان في يفاعته مغرمًا بالغناء؛ يقضي أوقاتًا في بساتين النخيل، يغني، يعلو صوته عاليًا، عاليًا، حتى يتجاوز رؤوس النخيل، ثم ينتظر صدى الصوت، يعيده مرة، مرات.
كان صوته يطرب العصافير، فتنتظم في سكون وهي جذلى، وكأنها جمهور مدنف، صبّ.
في درس اللغة العربية، كان التلاميذ الصغار يتشوقون، يُعدّون أسماعهم؛ فالمدرس الجديد يُحيل الأناشيد إلى ملزمات من الألحان العذبة الشجية.
ثم عبر الفنان إلى العاصمة، حيث تدور منظومة الإبداع الفني الغنائي.
كانت السجانة موئل المدرسة الوترية الراسخة، وهناك التقى خليل أحمد، الملحن ذائع الصيت، وله قُربى مع وردي، ثم التقى إسماعيل حسن (ود حد الزين)، وبدأ عهد من التطريب الرائق، وكأن الأيام تعيد أيام (الموصلي) و(معبد).
محفل فني صغير، كوّنته روافد حيّة في ملتقى النيلين، رشفت من ثقافة ومُغتنيات أهل السودان الفنية.
كان نزار قباني والرحبانية وفيروز يعطرون الأمسيات بغناء هو التراتيل البديعة...
من مقرن النيلين أطلت زهرات الغناء الطروب، تفتحت، أطلقت عطرًا، ومدّت ظلًا.
بدأ محمد عثمان وردي كبيرًا، طوى سُلّم التدرّج طيّ الحجاب.
كان يغني في بدء أيّامه في الاستديو من إذاعة أم درمان، وكان صوته غريبًا على مسمع الناس.
بعد انتهاء اللحن، كان علي شمو ينتظر وردي أمام باب الاستديو، ثم همس في أذنه:
"شخصية كبيرة تود مقابلتك..."
وكان ذلك خضر حمد، عضو مجلس السيادة.
أدهشه اللحن، فتأمل قيمة الفنان وقمة التذوق الراقي.
وخضر حمد هو صاحب نشيد (المؤتمر).
هذه إضاءة، تعقبها حلقات نستهلّها بحقبة الرومانسية.
0 التعليقات