خليك دبلوماسي

محمد مأمون يوسف بدر

فرحة عارمة عمّت أرجاء مدينة الدندر بافتتاح مستوصف دار العلاج يوم 2025/7/20، الذي شيّده رجل الأعمال والمزارع المعطاء الهادي نجم الدين أحمد بدر.

كان المشهد مؤثرًا، حيث غمرت البهجة وجوه الحاضرين الذين توافدوا ليشهدوا هذا الإنجاز الإنساني الذي سيخفف معاناة الكثيرين، ويقدّم العلاج والرعاية لأبناء المنطقة.

لكن وسط هذه الأفراح، عادت بي الذاكرة إلى الوراء، إلى رجلٍ لم تغيّره الأيام، ولكن غيّبته الأقدار، وبقيت ذكراه حيّة في قلوب أهالي الدندر. إنه رجل البر والإحسان المرحوم الحاج محمد يوسف بدر.

عندما تحدّث أهالي الدندر عن الحاج محمد يوسف بدر، لم يتحدثوا عن ثرائه أو مكانته الاجتماعية الرفيعة، بل عن إنسانيته، تواضعه، وأعماله الخيرية التي طواها بستار من السرية كي لا يفسدها الرياء. لقد كان نموذجًا فريدًا للعطاء بلا مَنٍّ ولا أذى؛ بنى المدارس والمساجد، وساعد الأرامل واليتامى والفقراء دون أن ينتظر شكرًا أو مديحًا.

في تأبينه، ردد أهالي الدندر قصيدةً تعكس حزنهم العميق على فراقه:

مفقود يا خريف دارنا البمهّل النجعة

ببكي عليك بكايا فيهو كمين وجعة

آخرهن فِراقًا لا خبر لا رجعة

وأولهن رحيلًا سيتو منّا فجعة

كما قال مولانا عبد الرحمن أحمد محمد البشير:

وين البشدو الحيل؟ وين البعدلو الميل؟

وين مشرع الوارده؟ وين مقنع الكاشفة؟

وين البيعدّلوا الكلمة؟ وين البشيل فوق الدبر والدم؟

وين الصادق؟ آخيناه فترة قليلة، وكم أخينا من الرجال، ولكن يختلف هو.

ما أكثر الإخوان حين تعدّهم، ولكنهم في النائبات قليل.

إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، وإنا على فراقك يا حاج محمد لمحزونون. جميع أهل التصوف يفتقدونه، لأنه كان شخصًا يأتيك حافيًا، ويتلقاك من بعيد، ويجلسك قبل أن يجلس، ويأكل بعد أن تأكل.

فأين هذه الأخلاق في أصحاب المال؟ المال طغيان، المال جن، لكن من الذي يحتمله غير الحاج محمد يوسف بدر؟

أين مَن يفقد الجار؟ من يحمل الزاد؟ من يُركب الناس أمامه ويركب هو في مؤخرة البوكس؟

هذه الكلمات لم تكن مجرد رثاء، بل شهادة حية على مكانة الرجل في قلوب الناس. لقد كان الحاج محمد يوسف بدر "درّاج الضعيف" كما وصفوه، يمدّ يده لكل محتاج، ويشعر بآلام الناس قبل أن يبوحوا بها.

اليوم، ونحن نحتفل بافتتاح مستوصف "دار العلاج"، نتذكر أن هذا العطاء هو امتداد لمسيرة بدأها رجالٌ مثل الحاج محمد يوسف بدر. فالهادي نجم الدين أحمد بدر، ببنائه هذا الصرح الصحي، يسير على نفس الدرب: درب العطاء، والتفاني، وخدمة المجتمع.

لقد عاش الحاج محمد يوسف بدر بسيطًا رغم ثرائه، متواضعًا رغم مكانته، كريمًا رغم حرصه على إخفاء أعماله. كانت البساطة سمة بارزة في شخصيته؛ فلم يتعالَ على الفقراء، ولم يتباهَ بماله، بل جعل من ماله وسيلة لخدمة الناس.

سيرة الحاج محمد يوسف بدر تُختصر في الأعمال لا في الأقوال؛ فالمدارس التي بناها ما زالت تُخرّج الأجيال، والمساجد التي أسسها ما زالت ترفع الأذان، ويده البيضاء ما زال أثرها يُذكَر بالخير. لقد آمن بأن العطاء الحقيقي هو الذي لا يعرفه أحد إلا الله، فكان يتجنب الظهور والإعلام خوفًا من أن يُحبط أجره.

اليوم، وأهالي الدندر يفرحون بالمستوصف الجديد، فإنهم في الحقيقة يحيون ذكرى رجلٍ جعل من العطاء أسلوب حياة. نعم، الهادي نجم الدين أحمد بدر قدّم عملاً يستحق الثناء، لكن روح الحاج محمد يوسف بدر كانت حاضرة في ذلك اليوم، كأنها تُذكّر الجميع بأن الإنسانية هي أجمل إرث.

فرحة أهالي الدندر ليست فرحة بيوم عابر، بل هي فرحة بمسيرة خير تتواصل. فما بناه الحاج محمد يوسف بدر، وما يبنيه اليوم الهادي نجم الدين أحمد بدر، وغيره من المحسنين، هو تأكيد على أن أرض الدندر ما زالت تنجب الرجال الذين يجعلون من العطاء رسالة.

رحل الجسد، لكن ذكرى الرجال الأوفياء تبقى. "وما عند الله خيرٌ وأبقى."