حصاد الألسن – عبد الله مسعود
في حوالي الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر يوم 19/7/1971، توجّهتُ بصحبة الأخ الصديق عبد الله السماني، والأخ الصديق مروان الفاضل عضو مجلس إدارة الهلال ومدير الكرة، من الخرطوم إلى أم درمان لحضور تمرين فريق الهلال لكرة القدم. كان السماني سكرتيراً للمجلس، وكنت نائباً له. ما إن وصلنا إلى كبري أم درمان حتى وجدنا دبابتين على متنهما ثُلّة من الجنود الذين أمرونا بالعودة من حيث أتينا. لم تكن لدينا أدنى فكرة عمّا يحدث، فقال الأخ مروان الفاضل (طيّب الله ثراه)، والذي كانت تربطه ببعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أواصر مودة وقُربى: "الظاهر إن ناس زين العابدين عملوها".
إلا أن زين العابدين لم تكن له صلة من قريب أو بعيد بما حدث ذلك اليوم، إذ أُعتقل مع النميري وبقية أعضاء المجلس في القصر الجمهوري، وخرجوا بقدرة قادر. (لا تُصدقوا رواية نميري في أنه قفز أو تسلّق الحائط، فحائط القصر من العلو بمكان يجعل الأوكراني سيرجي بوبكا عاجزاً عن تخطّيه بالعصا، مع أنه صاحب الرقم القياسي في القفز بالزانة). استنتجتُ من حديث مروان أن هناك أكثر من جهة كانت تُخطّط للإطاحة بنميري.
انعقد الاجتماع في اليوم التالي، وقرّر المجلس – ضمن ما قرّر – إرسال برقية تهنئة للنظام الجديد، إذ لا يمكن للهلال أن يعزل نفسه عن الأحداث الوطنية، كما أن سعي نميري لتسييس الحركة الرياضية وجعلها رافداً من روافد مايو كان يمثل غُصّة في حلوق الرياضيين كافة. كُلِّفتُ من قِبل المجلس بصياغة البرقية دون الرجوع إليه، وإرسالها في صباح اليوم التالي. ولسبب لا أدري كنهه، لم أكتب، وبالتالي لم أرسل البرقية لا في اليوم المحدد ولا في الأيام التي تلته. وتوالت الأحداث بصورة دراماتيكية.
عاد نميري ليمارس أقسى صنوف الانتقام ضد كل من له صلة بإبعاده عن الحكم لثلاثة أيامٍ حُسُوماً. أصبنا نحن – الشباب – بشيء من الإحباط لعودة نميري، لأننا مللنا تخبطاته، ولم نعد قادرين على إدراك ما يرمي إليه بسياساته المتناقضة. كان لكل يوم "حقيقة"، وصرنا بالتالي بلا حقيقة. فإن لم تكن مواكباً بأن تنام بإحدى المقلتين وتتقي بالأخرى تناقضاته، فستقع في المحظور. كان ذلك هو الشعور الوطني العام، أما أهل السياسة فلم تلِن لهم قناة، وسعوا جهد طاقتهم للتخلص من نميري، حتى تمّ لهم ذلك بتأييد من الشعب بعد خراب سوبا.
في الثالث والعشرين أو الرابع والعشرين من يوليو – لا أذكر على وجه التحديد – حضر نفرٌ من أعضاء مجلس الإدارة إلى مكتبي بمؤسسة سوباط التجارية، فتوجّستُ خيفة من نظراتهم الزائفة الممزوجة باللوعة والأسى. (هل يا تُرى هم محبطون لهذا الحد لفشل المحاولة؟) لكن سرعان ما أفقتُ من انقيادي لخيالي حينما ابتدرني أحدهم سائلاً: "هل أرسلت البرقية؟" فقلت – بأسلوب ينم عن الاعتذار –: "الحقيقة، لم أرسلها لأن..." وطفقت أبحث عن مخرج.
لكن ما إن علم زملائي بأني لم أرسلها حتى انفرجت أساريرهم، وانشرحت صدورهم، وبدأ العناق... عانقوني وعانقوا بعضهم بعضاً "نفر نفر" على حد قول ريا أخت سكينة. لم أدرِ السرّ وراء ذلك التحول، ووقفتُ مشدوهاً فاغر الفم، فقال آخر: "إن نميري طلب أن تُرسل إليه جميع برقيات التأييد (الشماتة) لعنايته شخصياً، وقد بدأ بالفعل اعتقال أصحاب البرقيات، وإرسالهم إلى سجن كوبر بعد إقامة حفل حفيل لبعض أصحاب التزيد في الشماتة لاستفزازهم وإهانتهم. فمن أبى أن يُسام الخَسف، كان نصيبه علقة ساخنة من يدي أبعاج الكريمتين" (الكريمتين في اللكم والتلفيخ).
حمدتُ الله أن أنساني كتابة البرقية وإرسالها، فقد كنا على بُعد خطوة من كوبر... فأنجانا الله منه.
0 التعليقات