عبورٌ في الظلّ
الطاهر يونس
هذا ما روته شقيقتي...
في ذلك اليوم المشؤوم من أيام الجزيرة الوادعة، يومٌ لم يكن فيه الهلع صاخبًا كما اعتادت أن تصوّره الأفلام ومشاهد الدراما، ولكنه كان صامتًا يحاصره الخوف وآمال النجاة. فقد سقطت الجغرافيا، وما استوطنها من معانٍ، لتصبح مسرحًا للوجع وساحة لأبشع فظائع التاريخ، ارتكبتها الأرواح الشريرة التي سكنت أوباش الشتات.
انغلقت أبواب الحافلة الصغيرة على النساء والأطفال، وبدأنا الرحيل... لا نحو مدينة جديدة كسابق أيامنا، بل نحو المجهول.
لم يكن في الأمر أيُّ سابق تخطيط أو حساب، بل كل شيء حدث على عجل. في خضم ذلك المشهد، ومن بين جموع المودّعين، غير بعيد من الحافلة، على ثنيّة الوداع، ظهر وجه شقيقي بحزن مكتوم، بعد أن أكمل عُدّتنا للخروج. وقد عُرف بصلابة حد الجفوة، لا يُهادن الضعف، ولا يُظهر الوجع حتى في أكثر الأوقات قسوة. لكنه، والحافلة تنسل من قلوب المودّعين، انكشف أمام ضعفه الإنساني، وقد خانته دمعة انزلقت على خدّه، وكأنها كل ما تبقى من صبره.
لم نكن نملك أوراقًا ولا خارطة طريق، فقط شعورًا طاغيًا بأن البقاء لم يعد خيارًا، وأن الخروج، مهما كلّف، هو النجاة الوحيدة الممكنة.
سلكنا طرق التهريب، لا لأننا مجرمون، بل لأن الحياة نفسها قرّرت أن تحاصرنا خارج القانون.
سائقو عربات الدفع الرباعي يعرفون الطريق عن ظهر قلب، لأنهم خَبِروه آلاف المرات؛ طرق لا تعرفها الدولة، ولا تعترف بها الحدود.
الرحلة طويلة، موحشة، محفوفة بالخوف من كل شيء: من الكمين، من الضياع، من انقطاع الماء في الصحراء، من بكاء طفلٍ يثير انتباه غريب، أو سؤال امرأة قد يُغضب المُهرِّب.
مررنا بفيافي منسيّة، بصحراء لا تنتهي، وجوع لا ينام.
أحيانًا كنّا نختبئ بين الصخور حين نسمع صوت مركبة تقترب، وأحيانًا نمضي طوال الليل في العراء، على الرمل البارد وتحت سماء لا ترحم.
كان الجوع ينهش بطون الأطفال، والعطش ييبّس شفاه الأمهات، والهواء يحمل رائحة الخوف.
لكننا مضينا.
وفي فجرٍ لا يُنسى، وصلت بنا السيارة إلى تخوم مدينة لم نحلم يومًا أن نبلغها بهذه الطريقة.
القاهرة...
الوصول لم يكن لحظة فرح، فقد كنا غرباء حتى عن أنفسنا، تباعدت ملامحنا عمّن كنّا قبل الرحيل، كأننا خسرنا أعمارًا بأكملها في أيام، وتقلّصنا إلى وجوه مُتعَبة وعيون زائغة.
استقبلتنا المدينة بنورها المرتّب، وزحامها، وشوارعها التي لا تنام. كانت كبيرة بما يكفي لتخفي مآسينا في زواياها، لكنها باردة، كأنها لا ترى أحدًا.
وفي زحمتها، كنّا نبحث عن شيء صغير: ركن آمن، جملة طمأنينة، أو حتى ابتسامة لا تسألنا من أين أتينا.
عرفنا أخيرًا أن النجاة ليست في الوصول، بل في قدرتنا على الوقوف مجددًا دون أن ننكسر.
نقلا عن آكشن سبورت
0 التعليقات